تعد الأخلاق معيارًا للفعل الذي يمكن أن يقال عنه إنه خير، وهذا يعني أن فكرة الخير تعد أساسًا للسلوك الأخلاقي، سواء من الناحية الاجتماعية أو الدينية، وهي مبحث قديم بدأ مع بدايات الفلسفة اليونانية خصوصًا عند سقراط وأرسطو، وانتقل إلى العصور الوسطى إسلامية ومسيحية، وحديثًا عرض له الكثير من الفلاسفة. فشُغل الكثير منهم بالأخلاق، وأولوها اهتمامًا عظيمًا، فجاء مسكويه كواحد من أوائل الفلاسفة الإسلاميين بكتابه "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" ليعرَّف فيه الأخلاق قائلًا: "الخلق حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية". وهذه الحال تنقسم إلى قسمين، منها ما يكون طبيعيًّا من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب ويهيج من أقل سبب، وكالذي يجبن أو يفزع أو يضحك أو يغتم ويحزن من أيسر شيء، ومنها ما يكون مستفادًا بالعادة والتدريب، ثم يستمر عليه أولًا فأولًا حتى يصير ملكة وخلقًا. جاءت آراء الفلاسفة مختلفة حول هذه النقطة، فمنهم من قال: إن الإنسان خيِّر بطبعه، لكنه يتشرر من مجالسة النفوس الخبيثة، ومنهم ومن قال إن الإنسان خلق من كدر العالم وطينته السفلى، فهو شرير بطبعه ثم يتحول خيِّرًا بمجالسة الأخيار، وهناك فريق آخر، مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، منهم جالينوس، ويقولون بأن الناس لم يخلقوا أشرارًا ولا أخيارًا، لكن منهم من هو خير الطبع ومنهم شريره، ومنهم من هو متوسط بطبعه. ثم يتطرق مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" إلى رأي معلمه أرسطو، فيوافقه الرأي في أن الشرير قد ينتقل بالتأديب إلى الخير، ومن الناس من يقبل التأديب، ويتحرك إلى الفضيلة بسرعة، ومنهم من هو بطيء التحرك، ثم يبين أن هناك من الطباع ما تولد مع الإنسان ويصعب تغييرها. إذن فنتيجة فلسفة الأخلاق عند مسكويه هي الفضيلة والسعادة القصوى وخير الحياة في الدنيا والآخرة, وهي عبارة عن آراء مقتبسة أو متفقة مع آراء أرسطو وسقراط وفلاسفة اليونان. ويدلل مسكويه على رأيه بمثال يقول إن الصبيان والأحداث الذين يتم تأديبهم وتعليمهم فيتطبعون بطباع الخير أو العكس، ثم يسيرون على السيرة التي تطبعوا عليها، فتصير طباعًا لا خلقة فيهم. وهذا ما يشير إليه أرسطو أيضًا في كتابه "الأخلاق النيقوماخية" حيث قال: "أما الفضائل فإنّا نكتسبها إذا استعملناها أولًا، كالحال في سائر الصناعات؛ لأن الأشياء التي ينبغي أن نعملها إذا تعلمناها، هنا إذا عملناها تعلّمناها، مثال ذلك إذا بنينا صرنا بنّائين، وإذا ضربنا العود صرنا ضرّابين للعود، وإذا فعلنا أمور العدل صرنا عادلين، وإذا فعلنا أمور العفّة صرنا أعفّاء، وإذا فعلنا أمور الشجاعة صرنا شجعاء". ومن ثم فالأخلاق عند أرسطو ليست علمًا نظريًّا يتعلّق بالظواهر الأخلاقية، ولا سجية جُبل الإنسان عليها ولا تتغير، وإنما يتصف الإنسان بالفضيلة والخلق إذا مارسها، فالمعرفة وحدها بدون أفعال دالة غير كافية في هذا الباب، ولعل هذا الأمر هو الذي دفع أرسطو لإضافة الأخلاق إلى موضوعات ومباحث الفلسفة العملية. ثم إن أرسطو لم يترك الأمر هكذا، فقد بيَّن أن تلك التصرفات والأفعال التي يقوم بها الإنسان تجعله المسؤول الأول والأخير عنها؛ لأنه يفعل هذا الأفعال من تلقاء نفسه، فيصرح أرسطو قائلًا: "الفضيلة من الأشياء التي هي إلينا، وكذلك الخساسة، وإن كان فعل الجميل إلينا، ففعل القبيح إلينا، فإلينا إذن أن نكون أخيارًا أو شرارًا". من ثم نقول: لمَّا كانت أفعال الإنسان بيده لا بيد غيره، أي أنها تصدر لموافقته لهواه وميله تجاه الشيء، فوجب عليه ألَّا يقدم على فعل إلاّ بعد تروٍ واختيار. ثم إن سقراطًا كان يعول على ما عول عليه أرسطو، فتوصل من خلال العقل إلى حقائق معرفية، فعرف عن طريقها القيم المطلقة في مجال الأخلاق، فبدت الطبيعة البشرية لديه إما جسما ومنه القبيح أوعقلا يسيطر علي نزوات الحس وأهوائه. ثم أشار إلى أن القيم الأخلاقية تتعارض مع الجانب الحيواني في طبيعتنا، وتتمشى مع الطبيعة العاقلة فينا، ولذلك وجب احترامها وطاعتها. وأصبح العلم عند سقراط هو العلم بالنفس لأجل تقويمها مؤكدًا شعار "أعرف نفسك بنفسك." يقول سقراط: "إن الإنسان هو الروح وهو العقل الذي يسيطر علي الحس ويدبره" فالإنسان في نظر سقراط يريد الخير دائما، ويهرب من الشر بالضرورة. الإنسان إذا عرف حقيقته وماهيته معرفة يقينية، فإنه لابد أن يكون فاعلًا للخير، أما الشهواني فهو يجهل نفسه وخيره. ويتأكد موقف سقراط من المشكلة الأخلاقية بقوله إن العدالة وسائر الفضائل الأخرى تتلخص في الحكمة أو معرفة الخير، وهو يؤكد أن هذا السلوك هو الاختيار الصحيح، وأن الرجل الشرير مجبر بالجهل على أن يفعل ما يناقض رغبته الحقيقية التي تتجه على الدوام نحو خيره الأسمى، والمعرفة وحدها هي التي تطلق عقاله وتجعله حرًّا في تحقيق رغباته. وبذلك يتضح لنا أن سقراط أراد بناء الأخلاق على العقل، فألغي بذلك ردها إلى سلطة خارجية تتمثل في الآلهة أو العرف أو غيرها مما كان متعارف عليه آنذاك. كما أنه جعل قواعد الأخلاق ثابتة غير متغيرة، وجعل مقياس الخير والشر لا يتوقف على مصالح الناس، كما أنه صالح لكل زمان ومكان. نستطيع أن نقول: إنّ أرسطو وسقراط يتفقان معًا في النقاط التي من شأنها تحقيق الفضيلة لدى الإنسان، كما يقران بضرورة تسليط قوى النفس العاقلة على البدن. ولكنَّ نيتشة الفيلسوف الألماني له رأي مغاير لهذه الآراء، إذ يرى: "إننا بحاجة لنقد القيم الأخلاقية، وإن قيمة هذه القيم ينبغي أن تطرح قبل كل شيء على بساط البحث، ومن الضروري ضرورة ماسَّة أن نعرف الشروط والأوساط التي ولّدتها، وكانت بمثابة الرحم الذي نمت فيه تلك القيم وتشوهت (الأخلاق بوصفها نتيجة، عارضًا من العوارض، قناعًا، نفاقًا ورياءً، مرضًا والتباسًا، بل الأخلاق أيضًا بوصفها سببًا وعلاجًا وحافزًا وعائقًا أوسمًّا زعافًا)، أن نعرف تلك الشروط معرفة لم يحدث لها مثيل حتى الآن، بحيث لا يحتاج المرء حتى إلى تقصيلها والتحري عنها". بهذا تتضح لنا الحملة الشرسة التي شنها نيتشه على سالفيه، وتنبئنا بشكل وتصنيف مغاير للأخلاق عما عهدناه لدى الفلاسفة السابقين. وهذا ما حدث، فقد قسم نيتشه الأخلاق إلى قسمين؛ أخلاق العبيد ويراها نيتشه أخلاق الضعفاء التي تندرج تحتها "الأخلاق الذميمة"، عندما لا يستطيعون الرد بالمثل، وتتمثل في أعراف وعادات وقوانين تكرس هذه الأخلاق، التي تغذي إرادة الموت، وتحارب إرادة الحياة، فصارت أخلاق العبيد هي أخلاق الرعاع والغالبية العاجزة. أما القسم الثاني فهو أخلاق السادة، يرى نيتشه أن أخلاق السادة هي أخلاق الأقوياء، ويدلل على أن التاريخ ليس إلَّا تعاقبًا بين أخلاق السادة وأخلاق العبيد. يختلف الفلاسفة في تقسيماتهم ومسمياتهم للأخلاق، لكنهم يتفقون على أنها المحرك الأول والأوحد، الذي يجب أن نعول عليه لنصل إلى مجتمع راق، فالسلوك الإنساني يتّجه إلى الكمال كلما كانت أفعاله محكومة بالتعقّل والرويّة؛ لأن وجود قناعات بقيم فاضلة عند الإنسان هو الذي يجعل سلوكه في حالة سموّ دائم، وسعي متواصل من أجل مزيد من الكمال. ولا نقول بأن هناك أخلاق متأصلة في نفس الإنسان، ومن رام تغييرها كمن يروم تغيير حركة النار إلى أسفل، أو تغيير حركة الحجر إلى أعلى، بدلًا من الهبوط إلى أسفل، كما قال البعض، فكل منا لا شك قادر.