تعتبر علاقة الولاياتالمتحدةالأمريكية مع بوركينا فاسو قراءة في تواريخ هذه التجارب الثوريّة الضروريّة؛ لفهم ومعرفة وتطوير فهمنا للواقع الذي نعيشه في يومنا هذا، فالتاريخ مُرتبِط بالحاضر، والحاضر يؤسّس للمستقبل، وهذا ما نراه في مثال بوركينا فاسو، فمع الانقلاب الذي جرى برعاية أمريكيّة فرنسيّة في أواخر الثمانينيات ضدّ حكومة توماس سانكارا الثوريّة، الذي ظلت تجربته مُلهِمةً للشعب البوركيني وعموم الشّعوب الإفريقيّة، فقد كان داعيًا للوحدة الإفريقيّة والتضامن الأممي، ومناهِضًا للتّبعيّة لأمريكا حتى إنه كان يُلقب ب"جيفارا إفريقيا"، تولى حكم البلاد في أغسطس 1983، حتى تم قتله على أيدي مجموعة مسلحة مكونة من 12 ضابطًا أطلقوا عليه النار بأمر من "كومباري" أثناء توجهه إلى حضور أحد الاجتماعات. رفض سانكارا استخدم مكييف الهواء في مكتبه، وخفض رواتب الوزراء وباع أسطول السيارات المستوردة في الموكب الرئاسي، فضلًا عن أنه شجع على الاعتماد على الذات، وحظر استيراد الغذاء معتمدًا على الإنتاج المحلي، ألغى الضرائب عن عامة الناس وجعلها مقتصرة على الوزراء وكبار مسؤولي الدولة فقط، هذا كله بجانب التغيرات الكثيرة التي أدخلها على المجتمع البوركيني والإصلاحات التي تحققت خلال سنوات رئاسته للبلاد، خاصة في مجال حقوق المرأة، مما جعله في النهاية هدفًا للقوى الاستعمارية التي كانت تسعى للسيطرة على البلاد والتحكم في قراراتها. ولمعرفة أهمية بوركينا فاسو لدى الولاياتالمتحدةالأمريكية التي ظلت تحت تبعيتها حتى الانقلاب الأخير الذي أخرجها من تلك التبعية بشكل كبير، حيث تعتبر دولة بوركينا فاسو الواقعة في غرب إفريقيا ذات موقع استراتيجي يجعلها مركزًا مهمًّا في وسط دول لها ثقل وأهمية كبرى لدى القوى الاستعمارية القديمة والولاياتالمتحدةالأمريكية، تلك الدول هي مالي من الشمال، والنيجر شرق القارة السمراء، ودولة بنين من الجنوب الشرقي، بجانب توجو وغانا من الجنوبوساحل العاج من الجنوب الغربي، تبلغ مساحتها حوالي 274 ألف كم مربع وعدد سكانها 17 مليونًا، أكثر من نصفهم من الشباب دون سن ال25 سنة، تعمد بوركينا فاسو في اقتصادها على الزراعة والإنتاج الحيواني، ومن أهم منتجاتها الفول السوداني والقطن والذرة والأبقار والماعز والضأن. وتعد مدينة "واغادوغو" العاصمة أهم مدن البلاد، تأتي بعدها مدينة "بوبوديولاسو"، التي كانت تسمى في الماضي "جمهورية فولتا العليا"، وفي 4 أغسطس 1984 غير الرئيس توماس سانكارا اسم الدولة إلى "بوركينا فاسو" والتي تعني "أرض الناس الذين يصعب إفسادهم" باللغتين المحليتين الكبيرتين موسي وديولا، وحصلت بوركينا فاسو على استقلالها رسميًّا عام 1960، والعلاقة بين النظام في بوركينا فاسو والولاياتالمتحدة كانت جيدة، لكنها خضعت لضغوط في الماضي؛ بسبب كومباوري الذي أقحم حكومته في علاقة مشبوهة مع الولاياتالمتحدة عبر تجارة الأسلحة، وغيرها من الأنشطة التي عرضت البلاد للعقوبات والانهيار. كالعادة كان هناك تبريرات قوية من الولاياتالمتحدة في علاقتها مع بوركينا فاسو، فقالت: إن توطيد علاقتها بهذا البلد المهم ليس فقط لدعم السلام والاستقرار في المنطقة فحسب، بل لأن بوركينا فاسو شريك مع الولاياتالمتحدة في الحرب ضد الإرهاب بالمنطقة باشتراك قواتها مع القوات الأمريكية في قوات حفظ السلام، ونظرًا لأن الولاياتالمتحدةالأمريكية تريد استمرار دعم الديمقراطية في المنطقة، واحترام أكبر لحقوق الإنسان وتشجيع التنمية الاقتصادية المستدامة، وعلى الرغم من إغلاق مكتب وكالة التنمية الدولية في واغادوغو عام 1995 التي كانت تمنح البلاد حوالي 18 مليون دولار سنويًّا، بالإضافة إلى المنح التقنية التي كانت تعطيها الولاياتالمتحدة لبوركينا فاسو كبرنامج وجبة الغذاء المدرسية التي تدار من خلال خدمات الإغاثة الكاثوليكية، إلَّا أن الولاياتالمتحدة أوهمت الشعب البوركيني بأن لها اليد الطولى عليه، وظلت تصدر فكرة قصص النجاح التنموية بقيادتها في بناء الأمن الغذائي بمنطقة الساحل بعد فترة الجفاف 1968-1974 وبأنها نجحت في القضاء على المجاعة تقريبًا، على الرغم من سنوات الجفاف المتكررة التي كانت أزمة ظاهرة بوضوح ولم تنته، كما ادعت الولاياتالمتحدة، وظل النظام في بوركينا فاسو تابعًا بقوة للولايات المتحدة، حيث كانت الأخيرة المانح الرئيس للمنظمات الإفريقية المشتركة ومقرها في واغادوغو والتي حققت مكاسب كبرى من خلف تلك المنظمات، كما كانت العلاقة وثيقة ليس فقط بين البلدين كسياسيين ومسؤولين بل حتى على مستوى الموظفين، بعد اقتحام موظفي الولاياتالمتحدة الحياة الوظيفية في بوركينا فاسو لتدريبهم في مؤسسة تحدى الألفية ذات التمويل الأمريكي. وبرغم تلك العلاقة الوطيدة، إلَّا أن الولاياتالمتحدة دائمًا ما ترتب أوراقها حسب مصالحها السياسية، فبعد أن شهدت بوركينا فاسو اختناقًا سياسيًّا كبيرًا؛ بسبب تمسك الرئيس "بليز كامباوري" بالبقاء في السلطة لأكثر من 28 عامًا، بينما يستأثر حزبه الحاكم "المؤتمر من أجل الديمقراطية والتقدم" وحلفاؤه من "الجبهة الجمهورية" بأكثر من ثلثي مقاعد الجمعية الوطنية "البرلمان بالبلاد"، مما أدى إلى احتجاجات مهدت للانقلاب في 30 أكتوبر 2015 من قِبَل الجيش الذي سيطر على البلاد وأطاح بكومباوري بعد أن رفض التنحي، وأمسكت وقتها الولاياتالمتحدة بالعصا من المنتصف، تنتظر الكفة الراجحة حتى تتبعها لكي لا تفقد مركزها في بوركينا فاسو، حيث عارضت الولاياتالمتحدة محاولة الرئيس بليز كومباوري الترشح لفترة ولاية خامسة، وحثته سرًّا على التنحي، لكنها في ذات الوقت عارضت أيضًا أي تغيير فوري وغير دستوري للسلطة، بل هددت بوقف المساعدات الأمريكية الكبيرة عن هذه الدولة الفقيرة في حالة حدوث انقلاب. برغم تهديد الولاياتالمتحدة الصريح قبل الانقلاب، إلَّا أنها تراجعت بعد حدوثه ولم تستطيع وصف ما حدث بالانقلاب، بل قالت: إنها ليست مستعدة بعد لتحديد ما إذا كان استيلاء الجيش على السلطة في بوركينا فاسو يصل إلى حد الانقلاب أم هي خطوة لتصحيح المسار؟ وبعد أن كانت تهدد بوقف المساعدات قبل الانقلاب تغيرت اللهجة تمامًا، وقالت وقتها جين ساكي، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، بشكل صريح بأنه ليس هناك نية لوقف المساعدات، برغم أن الولاياتالمتحدة اعتبرت هذا الانقلاب ذا أبعاد خطير لعدة أسباب، أولها أنه برغم أن الرئيس المخلوع ليس له ثقل دولي إلَّا أن خطورة تنحية تأتي من أنه أحد أهم زعماء منطقة غرب إفريقيا، فقد ظل لفترة طويلة من حكمه مساندًا لجماعات المتمردين، كما لعب دور الوساطة في كثير من النزاعات التي اندلعت في دولة ساحل العاجومالي. ما زاد من خطورة تنحي كومباوري على الولاياتالمتحدةالأمريكية كونه حليفًا مخلصًا لها، حيث سمح بإقامة قاعدة أمريكية في العاصمة البوركينية واغادوغو، التي تمثل محورًا لتجسس أمريكا على المنطقة، حيث تنطلق منها طائرات التجسس الأمريكية فوق مالي وموريتانيا والصحراء الكبرى، وما يزيد من خطورة هذا الانقلاب من وجهة النظر الأمريكيةاحتمالية أن تتكرر هذه التجربة في عدد من الدول المجاورة لها، حيث إن ظروف بوركينافاسو تتشابه مع ظروف عدد من دول جنوب الصحراء الكبرى، فهناك زعماء في تلك المنطقة ظلوا طويلًا على رأس السلطة في بلادهم؛ مثل تيودورو أوبيانغ نغيما، في غينيا الاستوائية، وخوسيه إدواردو دوس سانتوس، رئيس أنجولا، وبول بيا، رئيس الكاميرون، ويوري موسيفيني، من أوغندا، وموجابي، من زيمبابوي. مقارنة هذا الوضع بما حدث في دول الربيع العربي يعتبر مدعاة للقلق بالنسبة للولايات المتحدة، حيث إنه إذا انتهى وضع هذه المنطقة إلى مصير المنطقة العربية، سيصبح ذلك فرصة كبيرة للجماعات الإرهابية والإجرامية التي يزداد نشاطها يومًا تلو الآخر، كذلك ستصبح هناك فرصة لتنامي الوعي الوطني الرافض لأي هيمنة خارجية؛ خاصة من الولاياتالمتحدةالأمريكية التي افتضح أمرها ونيتها السياسية تجاه العالم الثالث عامة وإفريقيا على وجه التحديد، كما أن هذه المخاوف من تكرار تجربة الانقلاب أدخلت الولاياتالمتحدة في حالة رعب من فقد أي رقم من ال13 دولة الإفريقية التي تستضيف قوات أمريكية، حيث لديها قاعدة في إثيوبيا وبوركينا فاسو للتجسس، وقوات في الكونغو وتشاد للبحث عن قائد جيش «الرب» وفتيات نيجيريا، وكذلك «جيبوتي» التي تضم 4 آلاف جندي وطائرات بدون طيار والتي تعتبر حرب الظل المتنامي داخل إفريقيا، حيث تزعم بأنها تحارب فيه الموالين لتنظيم القاعدة والجماعات المتشددة في القارة السمراء، لكن تلك القواعد ما هي إلَّا مراكز تجسس، أمثال قاعدة واغادوغو العسكرية ببوركينا فاسو منذ عام 2007، لكن غالبًا ما ينقلب السحر على الساحر، فقد ذكرت وثائق الخارجية الأمريكية فترة أيزنهاور 1952 1961 على لسان وزير خارجيته جون فوستر دالاس، أنه على الولاياتالمتحدة دعم الأنظمة الإفريقية والعربية حتى تستبد تلك الأنظمة شعوبها وتفسد خططها، وكذلك تدعم الولاياتالمتحدة المعارضة من الباطن، من خلال منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام حتى تضج من حكوماتها، فتقوم الثورات التي تضطرب بعدها البلاد فتنتهز الولاياتالمتحدة الفرصة بموطئ قدم وسيطرة فعلية، وبرغم تلك الخطة الممنهجة للسيطرة، إلَّا أن الولاياتالمتحدة أصبح لديها ذعر من تلك الثورات والانتفاضات التي خططت لها؛ لأن الشعوب أصبحت تقرأ ما بين السطور جيدًا.