في مشهد تخيلي، تقابل 3 أصدقاء، لا يزيد عمر الواحد منهم عن 18 عامًا، لا يشغلهم ارتفاع سعر «صوباع الحشيش»، ولا الصور الأخيرة لهيفاء وهبي على انستجرام، لم يعترضوا طريق فتاة حتى بالنظر، لن تفوتهم الحلقة الأخيرة من برنامج اكتشاف المواهب، لأنه ليس على قائمة اهتماماتهم من الأساس، هم الآن في طريقهم لحي الجمالية، صباحًا خططوا لجولة مسائية بأطول شارع أثري في العالم، شارع المعز لدين الله الفاطمي. مروا من باب الفتوح، خطف أبصارهم سحر المعمار الفاطمي، وليس بينهم من يعيد على مسامعهم قصة كل ركن أثري حولهم، تمنوا لو جمعتهم الصدفة بابن زولاق، مؤرخ الدولتين الأخشيدية والفاطمية، كي يحكي بعض من صفحات كتابه «سيرة المعز لدين الله».. لم يتعرفوا على جامع الأقمر إلا من لافته قديمة على بابه، استوقفهم اسمه وطرازه، بحثوا بداخله عما يدلهم عن صاحبه، وعلى بعد خطوات منهم عامل نظافة لم يتجاوز عمره الخمسين، لم يمنعه انهماكه في تنظيف أرضية الجامع عن توجيه كلماته للزائرين. تدخل أو تداخل معهم، قطع حيرتهم وحاز إنصاتهم: "صحيح الجامع مساحته صغيرة، لكنه عوض صغر المساحة بالواجهة، كأول واجهة تحظى بزخارف معمارية من دلايات ونقوش خطية ونباتية محفورة في الحجر، تتزين وحدها بسبعة أشكال لشموس مختلفة الأحجام،…". لم تنته كلماته، ولم تغرب شمس تلك الليلة في عقولهم.. خيال، من النادر أن يصطدم أي منا بموقف كالسابق، لأن وزارة الثقافة التي تبنت تثقيف كل فئات المجتمع، من خلال شعارها الذي اعتادت ألسنة المسؤلين ترديده «هدفنا النزول للشارع»، ليس في خطتها أي برامج تثقيفية لعمال النظافة والصيانة والسعاة داخل الوزارة، وفي أفضل الأحوال تنظم لهم دورة محو أمية، فكيف نستأمن تلك المؤسسة على عقول الفئات البسيطة في المجتمع إذا كانت فاشلة في تثقيف العاملين فيها؟ أو كما يقول المثل «باب النجار مخلع». الدكتور محمد عفيفي، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، قدم في الفترة الأخيرة أكتر من 12 ورشة تثقيف وتدريب، منها دورات إدارة ثقافية وإعداد كوادر شابة، شملت العاملين بالمجلس ومختلف قطاعات الوزارة، فضلًا عن ورش عمل لتطوير قطاعات وزارة الشباب تبادلوا خلالها المقترحات، إضافة إلى تفعيل مجلس استشاري من شباب العاملين بالوزارة. كان لابد أن نسأله عما يقدم للعمال البسطاء، كعمال النظافة والفنيين، فقال "عفيفي": بالنسبة للنوعيات "الأدنى من العمال"، ننظم لهم باستمرار دورات محو أمية، افتتحتها بنفسي، كما نظمنا هنا في المجلس دورات لموظفي الوزارة، لتدريبهم وتوعيتهم كيف يكونوا نشطيين، ويساهموا في محو أمية العمال. لكن هل هذه الخطوة كافية لحل المشكلة؟ هذا ما أجاب عليه أيضًا، قائلًا: عبر سنوات طويلة صدقت الوزارة على عدد كبير من التعيينات، وكلها إرضاء لمكاسب سياسية، أو إرضاء لأحد المرشحين بالانتخابات، تجده يسعى ليعين 50 شخص، وكأن وزارة الثقافة هي "الحيطة المايلة"، ولا ننسى تعيين أبناء العاملين، وأود أن أوضح أنني ورثت تركة كبيرة من التشوهات المالية والإدارية، لدينا عمالة زائدة وغير مدربة، والرهان الحالي هو كيفية تدريبهم، للاستفادة منهم في الأنشطة الثقافية، التغيير لم يحصل في يوم وليلة، وتلك الخطوات التي ذكرناها ما هي إلا بداية التعامل مع الأزمة. أي وظيفة حتى لو كانت تنفيذية يساهم فيها، لا تقف عند حدود الروتين، والمحدد الأساسي لهذا هو النظام المتبع، والذي من شأنه أن يصيبك بالملل أو يحيلك إلى مبتكر، الوضع في وزارة الثقافة لا يأخذ في اعتباره مثل هذه الأفكار، وخير دليل تكرار حوادث من نوعية امتناع عمال المطابع عن طباعة كتاب بعينه، أو طبع قصيدة «شرفة ليلى مراد» للراحل حلمي سالم، لاعتبارها مسيئة، ما يؤكد مزاعمنا بأن الوزارة فشلت في تثقيف تلك الفئات من العالم، فتكرار هذا الموقف يؤكد هذا الفشل. محمد أبو المجد، مدير عام الثقافة والنشر بهيئة قصور الثقافة، يقول: ليس لعمال المطابع السلطة أو الحق في منع طبع كتاب، لأنهم جزء من الآلة التنفيذية لصناعة الكتاب، ليس لهم دور في اختيار الكتاب أو مادته أو مضمونه، لأنهم تنفيذيين في الأساس، وليسوا أوصياء على المنتج الإبداعي أو الفكري. السؤال هنا.. ماذا لو قدمت الوزارة الثقافة لهؤلاء العمال؟ لعل هذا كان سيساهم في خروج أعمال الراحل أنسي الحاج الكاملة للجمهور بدلًا من احتجازها في المخازن لسنوات، أو عدم إصدار رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب قرارًا بسحب مجلة إبداع بسبب اعتراض عمال المطابع على «شرفة ليلى مراد» وتكفير صاحبها. إلا أن «أبو المجد» يقسم العمل إلى منطقتين، المنطقة المسؤولة عن تخطيط الأنشطة الثقافية، ويؤكد أنها لا يمسها أي حجر على أي تفكير أو ابتكار أدوات جديدة لتنفيذ العمل الثقافي، وأن المسؤولين عن هذه المنطقة مهمومون بتجديد الأفكار وآليات تنفيذ العمل الثقافي، أما المنطقة الثانية فتتمثل في الأعمال الإدارية أو القانونية أو المالية، التي لا يستطيع العاملين فيها الابتعاد عن الشكل النمطي، لأن نوع العمل بالأساس نمطي، ليؤكد: المنطقتان يخلقان حالة صراع بسيط غير ظاهر ولا مؤثر على العمل". مدير عام الثقافة والنشر بالهيئة المعنية بالثقافة الجماهيرية في كافة ربوع مصر، سألناه عن أي برامج لتثقيف عمال النظافة، إلا أنه اعتبر سؤالنا "عجيب"، قائلًا: "مفيش عامل نظافة بيشارك في العمل الثقافي، ولست بحاجة لتنظيم دورات تدريبية أو تنموية لهم كي يشاركوا في العمل الثقافي، ما دام لدينا عندي مخططين للعمل الثقافي، كيف سيفرق عامل النظافة بين رفعت سلام وعبد المنعم رمضان؟". لعله تناسى في هذه اللحظة أن وظيفته في الأساس هي توضيح الفارق بين الاثنين لعمال الصيانة والنظافة، واكتفى بتذكر مشروعه الذي قدمه العام الماضي للوزارة الذي يهدف لمحو الأمية. لم يختلف رد فعل هويدا عبد الرحمن، رئيس الإدارة المركزية لإعداد القادة الثقافيين بذات الهيئة، التي تقدم 3 برامج "إلزامية" للفنيين (حماية مدنية، سلامة وصحة مهنية، إسعافات أولية)، بالتعاون مع الجهاز المركزي، فعندما سألناها ماذا عن العمال البسطاء؟ قالت ضاحكة: "تقصد السعاة؟! فئة السعاة ملهمش برامج حضرتك، عاوزنا نعلمهم النضافة يعني ولا نعلمهم إيه؟!". وكان من المهم أن توضح أنها "ابتكرت" -على حد وصفها- وسيلة جديدة للوصول إلى كل الموظفين في الهيئة، شرحتها لنا: "في الفترة الأخيرة وصلنا لكل العاملين بوزارة الثقافة، عن طريق وسائل الاتصال الإلكترونية، لأن مديرين الفروع والقصور كانوا بيحجبوا برامج الترشيح أو الإعلان عن الدورات التدريبية، وكان مصيرها الأدراج، أنا تخطيت هذه المشكلة بالإعلان على سلم ديوان عام الهيئة، فبقت في متناول جميع العاملين".