في سهل حوران من بلاد الشام، وفي العام الرابع عشر للهجرة، وفي واقعة هي الأغرب من نوعها، وجد سيد الخزرج وأحد زعيمي الأنصار وحامل لوائهم في المشاهد، سعد بن عبادة مقتولًا في مغتسله، وذاع وقتها أن الجن هي من قتلت سعدًا! والحقيقة أن ظروفًا عدة وملابسات خطيرة قد حدثت في حياة سعد تستطيع أن تبرر لنا بشكل يبتعد عن الخرافة، لماذا انتهى ابن عبادة هذه النهاية المأساوية؟ كان سعدًا أحد أربعة نقباء للأنصار في بيعة العقبة الثانية، ولما كان انصراف القوم بعد البيعة علمت قريش بم حدث، فأرسلت تطلب أولئك النفر الذين بايعوا محمدًا على التأييد والنصرة والمنعة، لكنهم لم يظفروا إلَّا بسعد بن عبادة، وعادوا به إلى مكة، وأروه من صنوف العذاب ألوانًا؛ حتى أشرف على الهلاك، لولا أن ترفق به رجل من قريش، فحاوره وعرف منه أنه جار لجبير بن مطعم والحارث بن حرب بن أمية، فطار الرجل إليهما يستصرخهما؛ فأتيا على عجل وأنقذاه من موت محقق. هل كانت تلك الواقعة هي ما أورث سعدًا بغضًا لا يزول ولا يمحى لقريش، حتى أن الروايات الواردة عنه يوم الفتح الأكبر تقول أوثقها إنه عندما دخل مكة على رأس فيلق من الأنصار، يحمل رايتهم التي عقدها له النبي "صلى الله عليه وسلم" نادى بسقوط الكعبة التي كان يعتبرها رمزًا لسيادة قريش وتجبرها وصلفها، وقيل أن أبا سفيان سمعه؛ فشكاه إلى الرسول، فأرسل الرسول عليًّا بن أبي طالب "كرم الله وجهه" ليأخذ منه الراية، وقيل أنه أُمِر أن يدفعها لقيس بن سعد بن عبادة، وذُكر أن سعدًا كان يردد وهو على مشارف مكة: اليوم يوم الملحمة.. اليوم تُستَحل الحُرمَة. وقيل إن عُمر قد سمعه؛ فأخبر الرسول قائلًا: ما نأمن أن يكون له في قريش صولة… ثم كان ما كان من أمر العزل ونزع الراية. لكن سعدًا وهو من هو لا يخشى أبدًا من إعلان رأيه، لا يتحرّج ولا يداهن طالما كان الحق معتقده فيما يجهر به، فلا يتهيب سعد أن يذهب إلى النبي بعد حنين، وقد شهد ما ألم بالأنصار من حزن إذ مُنعوا العطاء الذي أجزل للمؤلفة قلوبهم، لا يحتمل سعد انكسار قلوب قومه، وهو المستغني عن كل عطاء، وهو المشهور بالجود الذي فاق جود حاتم، حتى قيل إن الرجل من الأنصار كان ينطلق إلى بيته بالرجل أو الرجلين من فقراء المهاجرين؛ ليطعمهم أما سعد فقد كان يعود إلى بيته بالثمانين منهم، وكما ورد فقد كانت "جفنة سعد تدور مع رسول الله وفي بيوته جميعًا". يقول سعد في هذا الموقف الذي يصعب على غيره: "يا رسول الله.. إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم؛ لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت.. قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء" فيقول له الرسول: وأين أنت من ذلك يا سعد؟ فيرد بما عهد فيه من الشدة والحسم: إنما أنا رجل من قومي! ثم ما يلبث الرسول الأعظم أن يُهدئ النفوس ويئد الفتنة في مهدها بما هو معروف في اجتماعه بالأنصار وخطبته الرائعة فيهم والتي ختمها بقوله: ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا أنتم برسول الله في رحالكم؟! لكن سعدًا ابن عبادة لا ينفك قلقًا من قريش وأطماع سادتها على الأمة وعلى الإسلام نفسه، فلقد خبرهم سعد وعرفهم وعرف حبهم للسيادة والسلطان، فآل على نفسه وهو الزاهد في متاع الدنيا، الذي لا يكترث لمنصب ولا جاه، أن يحول بينهم وبين ما يشتهون، كما كان يرى "رضي الله عنه" أحقية للأنصار في خلافة رسول الله وهو من آووا ونصروا وأقاموا للإسلام دولته وأعطوه منعته، وكانوا المسلمون من قبلهم ضعفاءً يتخطفهم الناس. كان الجسد الطاهر مسجى في بيت عائشة وحوله كبار الصحابة من المهاجرين، بينما كان سعد في سقيفة بني ساعدة، يعرض نفسه على الأنصار خليفة لرسول الله، وكان قد ألمَّ به مرض شديد أضعفه عن الوقوف والمجادلة، ثم يتناظر القوم بعد قدوم أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، ثم تكون البيعة لأبي بكر، بعد أن خذل الأوس سعدًا؛ إذ نقموا أن تكون الرياسة في الخزرج! لكن سعدًا لم يبايع أبا بكر ولا عمر من بعده بل إنه لزم بيته لا يحضر إلى المسجد، ولا يشهد الجُمع؛ بل يكتفي بالصلاة منفردًا في داره، حزينًا على ما آلت إليه حال الأمة من استئثار قريش بالحكم، متبصرًا وخيم العواقب جراء ذلك، من تقاتل القرشيين على السلطة؛ حتى ينتزعها من هو أكثرهم بأسًا ودهاءً وخبثًا؛ فيهدم دولة المدينة؛ ليقيم لنفسه وقومه ملكًا جبريًّا عضوضًا لا يُبقي من دولة الرسول على شيء! يلتقي سعدٌ عمرَ في بداية خلافته، فيصارحه سعد قائلًا: كان صاحبك أبو بكر والله أحب إلينا منك، وقد والله أصبحت كارهًا لجوارك، فيجيبه عمر: إن من كره جوار جاره تحوّل عنه، فيقول سعد: إني متحول إلى جوار من هو خير منك! وفي سهل حوران من بلاد الشام يستقر به المقام، وهناك تكون ميتته العجيبة التي زعموا أنما هي من فعل الجن، حتى قالوا: إن أحدهم سمع صوتًا ينشد بعد مقتله: وقتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة *** ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده والأقرب إلى التصديق أن عمر بن الخطاب كان قد أرسل إلى سعد من يحثه مجددًا على الدخول في البيعة، فلما التقى الرسول سعدًا عرض عليه الأمر، قال له سعد: لا أبايع قرشيًّا أبدًا، قال الرجل: فإني قاتلك، قال سعد: وإن قاتلتني. قال الرجل: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة؟ قال سعد: أما البيعة فأنا خارج. فرماه الرجل بسهم فقتله. وما كان للدولة وقد كانت حديثة عهد بفتنة الردة أن تعلن عن تصفيتها أحد أهم معارضيها، فكان أن سار الحديث بأن سعدًا قتلته الجن! إن قتل سعد بن عبادة على هذا النحو هو حادث اغتيال سياسي لا ريب فيه، وهي الحالة الأولى من نوعها في تاريخ الإسلام، وهو سبق يضاف إلى سبق سعد إذا كان الأنصاري الوحيد الذي نال حظه من التعذيب على أيدي قريش، كما كان له السبق في الجود والفضل في النفقة طوال حياته، رحم الله سعدًا وغفر له، إذ كان رجلًا لم تعرف دولة الإسلام له نظيرًا، رحم الله عدو قريش.. قتيل الجن!