في الوقت الذي يتصارع فيه المصريون من أجل رغيف العيش وتفشي الفقر، انتشرت الكثير من الظواهر التي تناقض مبادئ المجتمعات وأخلاقياتها. يتفق الفساد الإداري بمصر مع ما قاله الفيلسوف اليوناني سقراط، بأنه مرتبط بوجود الإنسان نفسه في المجتمعات، فطالما تعامل البشر مع بعضهم البعض وجد الفساد، الذي يجد بمصر بيئة خصبة تساعده على النمو، من انعدام الشفافية وعدم رقابة مستمرة على الأجهزة الإدارية، فضلًا عن سيطرة قواعد البيروقراطية على مؤسسات الدولة والإدارت الحكومية كافة، وانعدام قواعد التناسب بين الدخل ومتطلبات الحياة، كل هذه العوامل تغري المصريين، خاصة موظفي القطاع العام باتباع سبل غير مشروعة لتحصيل متطلباتهم المادية. ولا تقتصر ظاهرة الفساد الإداري في تداعياتها على ما تفرزة من سلبيات على قطاع معين من القطاعات، وإنما تمتد آثارها لتطال القطاعات كافة وربما الأفراد؛ لأن الفساد الإدراي، على وجهه التحديد، له تأثير مباشر على اقتصاد الدولة باعتباره يعرقل عجلة التنمية الاقتصادية، ويسبب خللًا كاملًا في التركيبة الاقتصادية، فغياب دور المؤسسات المعنية بمراقبة النشاط الاقتصادي بالأسواق؛ مثل الإدارت المحلية وانشغال الشرطة بالفعاليات السياسية وأعمال العنف التي تصاعدت في الأوان الأخير، نوع من الفساد الإداري الذي يؤثر بشكل واضح على الاقتصاد، ولم يصل إلى هذا فقط، بل إنه يؤدي إلى نمو الاقتصاد الموازي. وحسب التقديرات الدولية, فإن حجم الاقتصاد الموازي يصل إلى 35% من الدخل القومي الذي يقدر بنحو 500 مليار جنيه, وبالتالي فإن حجم هذا الاقتصاد الخفي يصل لنحو 150 مليار جنيه, منه 40% ناتج من دخول غير مشروعة ومرتبط بالجريمة ويبلغ نحو 60 مليار جنيه, من هذا الرقم نحو 42 مليار جنيه لتجارة المخدرات وحدها, أما الباقي فدخول متولدة من العقود الكبيرة والمناقصات العالمية، واختلاس لمسؤولين كبار في القطاع العام والهيئات الاقتصادية والنقل البحري، وتهريب أموال بالتواطؤ مع موظفين بالبنوك, بالإضافة إلى عمليات تزييف النقود الإلكترونية. وتدخل كل هذه الأموال المنهوبة عمليات غسيل، من خلال الدخول في مشروعات زائفة, أو شراء الأسهم في البورصة, والقيام بعمليات استيراد وتصدير, ويسعى الاقتصاد الموازي بكل الطرق الاحتيالية للاندماج في الاقتصاد الرسمي، بالحصول على مستندات رسمية, وشهادة بمشروعية أمواله من خلال عمليات تدوير عديدة لهذه الأموال في العديد من الأنشطة حتي يصعب إثبات جرائمه, وفي الحالات التي يستطيع أصحاب هذه الثروات الإفلات من العقوبات الواردة بقانون العقوبات وتهم الكسب غير المشروع, فإنه يمكن إثبات تهمة غسيل الأموال بإقامة الأدلة من خلال الشخصيات المشبوهة. محاربة الاقتصاد الموازي شرط للقضاء على الفساد الإداري ولأن الفساد الإداري يعتبر الأكثر تأثيرًا؛ خاصة في المجتمعات النامية، فعند التفكير في محاربة الاقتصاد الموازي أو الخفي لابد من السعي للقضاء على الفساد الإداري. فحصول بعض العاملين بالحكومة على دخول إضافية، لقيامهم بأعمال أخرى بعد انتهاء العمل الرسمي أو الدروس الخصوصية، ضرب من الفساد الإداري يطلق عليه أيضًا الاقتصاد الأسود، مثل الإتجار في العملة والدعارة وتجارة المخدرات والرشوة بالمؤسسات الحكومية، خاصة داخل أقسام الشرطة والمستشفيات العامة والأعمال الإدارية بالمحاكم. ومن هنا لم تعد الأجور والمكافآت المدونة بالبيانات الحكومية معبرة عن الواقع الحقيقي، ونجد أن الخطوات الأولى لمحاربة الفساد تعمد على مفهوم مرن للعدالة في الأجور، يرتكز على وجود حدود للفوارق الكبيرة بين العاملين بالجهاز الحكومي، بحيث لا تزيد عن نسبة 1: 25، وعدم التفرقة بين العاملين بالجهاز الإداري للدولة والعاملين بالإدارة المحلية، من حيث المزايا والمكافآت. وأن يكون هناك مفهوم صارم لقياس الكفاءة وضبط سوق العمل الخاص والاستثماري، وتوفير الحدود اللائقة الخاصة ببيئة العمل، داخل مؤسسات هذا القطاع. الاتحاد السوفيتي وشرق آسيا.. نموذجان للقضاء على الاقتصاد الموازي وعن ذلك يقول دكتور محمود سلمان، أستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة: الفساد الإداري بالتأكيد يؤدي إلى عرقلة التنمية الاقتصادية، فالفساد يؤدي إلى زيادة العجز بالموازنة العامة للدولة، إضافة إلى أنه يكلف الدولة بلايين الدولارات سنويًّا، كما أنه يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الخدمات التي يحتاجها المواطن، بالإضافة إلى أنه يقلل من فرص الاستثمار المحلي والأجنبي وإهدار المال العام وزيادة النفقات. وتايع سلمان: ما حدث بدول الاتحاد السوفيتي السابق وجنوب شرق آسيا مثال على ذلك، فقد ترتب عليه استشراء الفساد في الجهاز المصرفي وبورصة الأوراق المالية عام 1997 وحدوث تراجع وانهيار اقتصادي، مما أدى إلى تحول هذه الدول من دائنة إلى مدينة للمؤسسات المالية العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين، فأدركت أنه بسبب الفساد الإداري وتراجعت عنه. وأوضح: تأثير الفساد على العوامل الاقتصادية يتمثل في تدني كفاءة الاستثمار العام، وإضعاف جودة البنية التحتية العامة بسبب الرشاوى، وأتاح التردي في توزيع الدخل واستغلال النفوذ الفرصة لانتشار الفساد السياسي. وأضاف صلاح جودة، الخبير الاقتصادي: الاقتصاد الخفي من الظواهر التي لن تتقلص إلَّا إذا تواكب الإصلاح الإداري مع الاقتصادي، بتطوير الخدمات، حيث يساعد في القضاء على مظاهر الفساد بالجهاز الحكومي، كالرشوة المرتبطة بالأنشطة غير المشروعة في ظاهرة الاقتصاد الخفي، مشيرًا إلى أنه يجب تقدير نقاط الالتقاء بين المواطنين والمستثمرين والجهاز الحكومي، ويتمثل أهمها في تقديم الخدمات، وهذا ما نفذته جميع دول العالم التي خضعت لظاهرة الفساد، حيث طورت أداء الخدمات، على أساس نظام خدمة الشباك الواحد، إلَّا إذا تم إنهاء الخدمات عبر المواقع الإلكترونية للأجهزة الحكومية، فإنه يساعد على تقليص الظاهرة. ويطالب بالاقتداء بقانون تقديم الخدمات، الذي تم تفعيله بدول الاتحاد الأوروبي، وهو يضع شروطًا معينة لكل خدمة توزع على الجهات التي تتخصص فيها، وتحدد المستندات المطلوبة لكل موظف. وتابع: لابد من الأخذ بالمعايير العالمية في تقديم الخدمات، ومنها شبكة الحاسبات الإلكترونية، حتى نقضي على ظاهرة الفساد الإداري بشكل كامل، ومنها التخلص من الاقتصاد الخفي.