جماعات الإسلام السياسي هي التنظيمات التي تعتمد (الإسلامية) كأيديولوجيا، وهي التي تقوم على رؤية خاصة للسياسة والاقتصاد والقانون، تعتمد على أصول معينة في العقيدة والفقه، وترى أن الكتاب والسنة قد تضمنا رؤية للدولة يجب تطبيقها، وقد تنوعت مواقف هذه الجماعات بقدر تنوع أيديولوجياتها الإسلامية، فمنها ما شكل معارضة سياسية، أو ثورية، ومنها ما تعاون مع السلطة في بلادها، ومنها ما مثّل شكلاً من أشكال مقاومة المحتل الأجنبي، مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر أثناء الاحتلال البريطاني، ومثل حماس اليوم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وغيرها. وبعد هزيمة العرب في 1967 وتراجع المشروعات الاشتراكية والقومية ظهرت الحركات الإسلامية الواقعة على حدود النزاعات العربية الإسرائيلية، وكذلك حكومة إيران الإسلامية، وغيرها من مناطق الصدام مع الغرب، باعتبارها آخر أشكال (المقاومة) ضد الاستعمار والتدخل الأجنبي، وهي الظاهرة المعروفة بالبديل الإسلامي الأيديولوجي والسياسي. وقد تبنى قوميون ويساريون وليبراليون عرب من جيل الخمسينات والستينات رؤية داعمة لهذه الجماعات، رغم الاختلاف الأيديولوجي، باعتبارها هذا الشكل الوحيد المتوفر من أشكال المقاومة، وفي الفكر العربي المعاصر تبلورت هذه الظاهرة مع نشأة المشروعات العربية المعاصرة في قراءة التراث، بدءًا من أدونيس، في أوائل السبعينات، مرورًا بالجابري، وحسن حنفي، ومحمود طه، والطيب تيزيني، وغيرهم، ظاهرة ما يمثله المثل الغربي (لا يهم لون القط ما دام يصطاد الفأر)، أي أن الخلاف الأيديولوجي مرجَأ، والدعم الحالي للمقاومة واجب، وبأوضح ما يكون مثل مشروع حسن حنفي (التراث والتجديد) أو (اليسار الإسلامي) هذه الوجهة من النظر، وتابعه فيها عدد كبير من الأساتذة والباحثين. وقد وقع الفكر العربي المعاصر بهذا الميل إلى دعم الإسلاميين في مأزق، فهو يؤيد أيديولوجيًا على المدى القصير ما يختلف معه أيديولوجيًا على المدى البعيد، بهدف إزاحة التدخل الأجنبي ودفع الاحتلال بأي ثمن، حتى لو كان هذا الثمن هو استبدال الشمولية بالاستعمار، والدكتاتورية بالاحتلال، وقد كرر الفكر العربي المعاصر بهذا خطيئة الخمسينات والستينات: التضحية بحقوق الإنسان والديمقراطية في مقابل تحديث شمولي لدولة قومية تناهض الاستعمار، فكانت هذه الدولة أشد وطئًا على مواطنيها من الاستعمار نفسه، وتبددت ثرواتها، وفقدت الكثير من أهميتها الإقليمية، وأدمتها المعارك الطاحنة. وليس التحرر ودفع الاستعمار هو السبب في تخلف المستعمرات السابقة، بل تقديم الوسائل على الغايات، وتقديم الغايات القريبة على الغايات البعيدة، والظن بأن الدولة الحرة من الاستعمار حرة تلقائيًا في القرار، دون تقديم شروط الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتقوم أيديولوجيات الجماعات الإسلامية على اختلافها -كما سلف أعلاه- على أصول معينة في علمي أصول الدين وأصول الفقه، والدارس المدقق في هذين العلمين غير واجد اعترافًا بحقوق الإنسان الطبيعية، وكما ذكرنا في مقالات سابقة: فحقوق الإنسان (أو بتعبير التراث: حقوق الآدمي) في الأصول الإسلامية غير طبيعية، أي غير لازمة عن طبيعة الإنسان بالضرورة، وذلك بكونها مكتسَبة، أي: معطاة من سلطة إلهية أو اجتماعية، ويمكن أن تسلَب من حاملها، كما في حد الردة، والرقابة على الفكر والتعبير والممارسة، وغيرها من مظاهر الحقوق المكتسَبة. ومن الخطر -أو العبث على الأقل- دعم جماعات تمثل مقاومة فعلية -وربما تكون غير فعّالة- ضد التدخل الأجنبي، في الوقت الذي لا تعترف فيه هذه الجماعات في أصولها الأيديولوجية ذاتها بحقوق الإنسان الطبيعية، فهو يؤدي -حال نجاحها- إلى إعادة إنتاج الدولة القمعية، التي لا تختلف عن دولة الاحتلال في كثير من شيء. ويبدو التلاقي بين القوميين واليساريين العرب مع الإسلاميين في نقطة شمولية الدولة أرفع من الخلاف في الأصول، وعابرًا للأيديولوجيات؛ فأصل (المصلحة) في أصول الفقه هو: أن الشريعة تستهدف مصلحة المجتمع، وحين يؤخَذ هذا المبدأ دون حقوق الإنسان الطبيعية تصير مصلحة المجتمع مقدَّمة بإطلاق على مصلحة الفرد وحريته وحقوقه الأصلية في كل مواضع الخلاف، أي يصير أصلاً شموليًا، ويحتاج الفكر العربي المعاصر لوقفة جادة وتفصيلية وناقدة لمبادئ الحقوق الآدمية في أصول الفقه، من أجل تأسيس وعي يعترف بها كحقوق طبيعية، ولا يتنازل عنها.