انعدام المرافق وانتشار الأمراض والسرقة والبلطجة.. والأهالي: احنا شبه فيلم حين ميسرة "لا أحد يشعر بنا"، كلمات بسيطة عبرت بها منى ضاحي، التي تسكن وزوجها وضرتها ونجلها في نفس الغرفة بمساكن كوم الملح "الجبل" بمنطقة القباري غرب الإسكندرية، واصفة حالها بعد سنوات من الذل والمرض، تعرضت لها جراء المعيشة بعشوائيات تفتقد المرافق، ويشاركها فيها ليس فقط عشرات الأسر، وإنما أيضًا الحيوانات والحشرات بمختلف أنواعها. تساقطت أجزاء كبيرة من سقف الغرفة على صباح وأسرتها عدة مرات، فالسقف تتخلله الأمطار لتنهال فوق رؤوسهم، فتقول ضاحي: انهار بي في إحدى المرات عندما صعدت لتجفيف الملابس، لترتطم بالأرض وتصاب بكسر في العامود الفقاري، تم نقلها إلى المستشفى الأميري العام، إلَّا أنه نظرًا لسوء الخدمات الطبية المقدمة، فقد أصيبت بالغضروف وأثر ذلك على الساقين، لم تنتهِ معاناتها عند هذا الحد، فالفقر والرطوبة والعيش وسط الحشرات السامة أصابها أيضًا بأمراض القلب والسكر وارتفاع ضغط الدم، مضيفة: "مقبلة على إجراء عملية قلب في الميري ومحدش سأل فيا". يعمل زوج منى ضاحي نقاشًا باليومية، وليس لهم دخل إضافي يعينهم على غلاء المعيشة، وحلمهم الوحيد هو "سكن يسترهم" على حد قولها، مشيرة إلى أن القائمين على مستشفى القباري هددوها بإهدار حقها في العلاج إذا تقدمت بشكاوى ضدهم. جدار عازل وقد سارعت الحكومة ببناء جدار عازل لتفصل بينهم وبين السائحينالمارين عبر كوبري القباري متجهين إلى الميناء، فاستشعروا من هذا التصرف معاداة الحكومة لهم واضطهادهم، وقد برر المسؤولون هذا الإجراء بأن "منظر البيوت ينقل صورة سيئة للسائحين عن مصر" هذا رد المسؤولين عند بنائهم السور الذي عزل سائر منطقة كوم الملح أو "الجبل" ، التي تعود إلى 40 عام، ليحيلهم إلى منفى، دون أن يجدوا متنفسًا لهم سوى تلك الفتحات التي يعبرون من خلالها الجانب الآخر من الكوبري، بما يشكل خطرًا كبيرًا عليهم بمجرد الانتهاء من عملية تطويره وافتتاحه. تقول صباح عيد، أحد الأهالي: تم بناء السور منذ شهر كامل، ومن وقتها لا يستطيع أحد الخروج مساءً؛ بسبب الظلمة الشديدة أعلى الكوبري الملاصق لبيوتهم. تسكن عيد مع طفليها منذ 12 عامًا، وبعد انفصالها عن زوجها في غرفة مبعثرة لا يوجد بها سوى شباك واحد، اتخذته العناكب بيوتًا لها، فهو دائمًا مغلق لمنع الحشرات، يتوسطها أحبال للغسيل، بينما الموقد الذي تطهي عليه طعامها اليومي "شوية بطاطس" على حد قولها، عبارة عن أنبوبة صغيرة مثبتة بعين وحامل، فيما تتناثر ملابس الأسرة في سائر أنحاء الحجرة وبعضها داخل جوال والبعض الآخر في كرتونة، ولا احترام لخصوصية المواطن في تلك الغرفة، حيث يفصل بين غرفتين لأسرتين مختلفتين ممر صغير، تتوسطه دورة مياه متر في متر، تواريها ستارة قد تتطاير بدفعة هواء. سقف خشبي متساقط ومصباح واحد يتوسط غرفة تحتوي على سرير يكفي لفرد واحد، لا يكفيها وابنتها البالغة من العمر 6 سنوات، بينما ينام نجلها على كنبة لا يتعدى طولها مترين ولا يتجاوز عرضها مترًا واحدًا. وتضيف عيد أن طفلها لم يستكمل دراسته وتوجه لبيع "العيش البايت" لعدم وفاء العشرة جنيهات التي يتركها لهما أبوهما يوميًّا باحتياجاتهم، مشيرة إلى أن جميع الغرف لا تدخلها المياه إلَّا من خلال ماسورة صدقة جارية تمتد من أحد المساجد لتروي ظمأهم، بينما يتم تصريف بيارات الصرف الصحي من الأهالي أنفسهم وإلقاؤها أسفل الكوبري. حشرات ضارة ثعابين وفئران وأبراص وصراصير وديدان، تقتحم البيوت يوميًّا، ولكون الغرفة مليئة بالشقوق والفتحات وتحدها الحشرات من كل جانب فلا سبيل من طردها، إلَّا باستخدام بنبات الشيح وعبارات دينية، مضيفة: "بقول له روح الله يسهلك وخلاص، هعمل إيه يعني". غرفة واحدة تجمع 6 أفراد، هم آمال محمد عبد الله، والتي سقطت أيضًا من أعلى سطح غرفتها وأصيبت على أثرها بكسر في الساق، وزوجها و3 أولاد وبنتين، يشاركهم في دورة المياه 4 أسر، وتقول عبد الله:" نتحمم "بالكوز" في الشتاء وبالخرطوم في الصيف" مشيرة إلى أنها تسكن في تلك الغرفة منذ 30 عامًا ويأتي موظفو الحي سنويًّا للتعداد ومغادرة المكان دون تقديم أي مساعدات لسكانها. "احنا شبه فيلم حين ميسرة" عبارة غاضبة رددها محمد شاكر عامل المحارة البالغ من العمر 28 عامًا، يصف بها حال أهالي كوم الملح، يُستغل وجيرانه من الشباب المحيطين ويقعون فريسة بين أنياب مرشحي البرلمان؛ للحصول على أصواتهم في الانتخابات بعد تقديم الوعود برصف الطرق وإصلاح أسقف الغرف، وبعد الانتهاء من التصويت، فلا وفاء بالعهود وتبقى الحال على ما هي عليه. وأضاف شاكر: أمي وأبويا بيناموا على السرير واحنا 3 شباب بننام على الأرض، لما الشتاء بينزل الحوائط بتنزل مياه وبنحط حلل فوق الدولاب والسرير، مش محتاجين حاجة من حد بذل ولا بنشكي لحد بس بنوصل صوتنا للمسؤولين، عملوا السور عشان يردمونا زي إسرائيل ما عملت مع فلسطين". أم ابراهيم أحمد، أصيبت بإغماءات متكررة في كل مرة ترى فيها ثعبانًا داخل غرفتها، إحداها عندما فتحت بابها ورأته يتدلى من سقف "الطرقة" وأخرى عندما تعثرت في الظلام لتفاجأ به يتمايل مغادرًا سريرها التي ترتكت ابنتها نائمة عليه لتجلس في الصالة الضيقة، بينما وخز فأر بناتها الثلاثة أثناء نومهن وتكلف علاج الواحدة منهن 11 حقنة، لم تتوقف خسائرها عند هذا الحد، بل قالت أم إبراهيم إن مياه الأمطار التي تخترق الأسقف بشكل دائم أتلفت كتب الدراسة لأبنائها، فضلًا عن انقطاع المياه والكهرباء المتكرر، الذي يصل إلى 6 مرات يوميًّا، حتى أن أحدًا بالجبل لم يتناول قطعة لحم واحدة في عيد الأضحى الماضي؛ بسبب تلف اللحوم كافة، التي قدمها البعض لهم كمساعدات. وأضافت أم إبراهيم أن مياه الأمطار تسببت من قبل في حدوث حريق داخل الغرفة، بعد تسللها من الأسقف على عداد الكهرباء مباشرة. البلطجة والمجرمون حالة من القلق تعيشها أم إبراهيم وغيرها من نساء المنطقة، فتشير إلى أنها تركت بناتها في البيت وخرجت وأثناء تلك المدة اعتلى حرامي سطح غرفتها ليخبئ فيه المخدرات والخمر التي كانت بحوزته هربًا من الشرطة التي لحقته، وفي واقعة أخرى حاول سارق سكير اقتحام غرفتها باستخدام سكين هشم به أجزاء من بابها مرددًا: "افتحي" دون أن يرهبه استغاثتها بجيرانها. يستيقظ إبراهيم أحمد صباح كل يوم مبكرًا ليفتتح محل الأسماك الذي يعمل فيه، ثم يتوجه إلى المدرسة، حيث يدرس بالصف الأول الثانوي، ومنها إلى المحل ليباشر العمل المطلوب منه للإنفاق على أسرته، وبعد الانتهاء من عمله يتوجه إلى المنزل للمذاكرة على ضوء التليفون المحمول أو على الطريق؛ لأنه غالبًا ما يجد التيار منقطعًا، فلا يطمح حاليًا إلَّا في الخروج من الجبل. وأشار ثابت السكري محمد 70 سنة، إلى أن أحدًا لم يطالبه بمغادرة "الجبل" كما لم يتلقَّ وعودًا بانتقاله للعيش في مكان آخر أكثر آدمية، فقد أصيب بكسر في الساق وأمراض صدرية وقلبية، مضيفًا: "مش معايا فلوس, ونفسنا نسكن سكنة حلوة، اللي بنشتغل به بناكل به". ينام عم ثابت وأبناؤه الثلاثة على نفس السرير في حجرة ضيقة للغاية، لم يلق هؤلاء الأبناء نصيبًا من فرص العمل التي أعلنت الحكومة عن توفيرها، حيث تقدموا بطلب العمل إلى عدة جهات لكن دون استجابة، فآلت بهم الأوضاع إلى التنقل في العمل ما بين السباكة والعمل كتباع، وغيرها لنيل فرصة آلت بعيدة المنال، وهي الزواج إلَّا أنه لم يجد القوت الذي يمكنه من شراء وحدة سكنية ولا ما يكفيه. تعتبر كوم الملح منطقة طاردة للعرسان من منظور سكانها من الفتيات، حيث تقول الحاجة مسعدة: إن ابنتها توفت وتركت لها حفيدتها التي بلغت من العمر 25 عامًا وتزوج والدها بأخرى ليخرج من "الجبل" ويظل محل سكن ابنته عارًا عليها ومصدر سخرية من زميلاتها في العمل، مضيفة: "لما ييجي زميلها يخطبها يشوف المنظر يمشي". تعاني الفتاة وفقًا لمسعدة من حالة نفسية سيئة خلَّفها العيش الضنك، وعدم قبول العرسان الزواج بها بعد معاينة المكان الذي تعيش فيه، فهربت من البيت ليعيدها أهل المنطقة مرة أخرى لأحضان جدتها وتقاسمها الفراش الذي لا يكفي لفردين، بينما تبيت في أيام الصيف الحارة وحدها في غرفة قريبة كانت لوالدها، لا يفصلها عن الشارع سوى باب متهالك كغيرها من المنازل. تهمس مسعدة التي بلغت من العمر أرذله بصوت يغلب عليه البكاء ويدان مرتعشتان: " قاعدة هنا في الفئران والقرف.. كان فيه ناس بيساعدوني ودلوقت بطلوا، وباخد علاج روماتيزم وخشونة وضغط وأعصاب.. عايزة مطرح يريحني من الفئران ولما البيت بيقع عليَّ ببقى لوحدي، عايزة ارتاح ولو سنة". اسطبل وزريبة ومجارٍ "اسطبل وزريبة ومجاري في المكان اللي عايشين فيه والعيشة دي محدش يرضى بها، فيه بنات أهلها بيسيبوها ويروحوا الشغل وبييجوا شباب من بره المنطقة برشام وحشيش، كفاية الخوف لما تبقى واحدة نايمة لوحدها وتسمع شلة معدية وممكن يفتحوا عليها الباب أو الشباك" حالة من الرعب والفزع تعيشها هدير وصفت بها منطقة الجبل وما تحتويه من عشوائية في الفكر والمسكن، حيث تنتشر أكوام القمامة وغرف خصصها بعض الأهالي للحيوانات كالحمير والخيول وسط مساكن جيرانهم. أسرة بالكامل تمكنت منها الأمراض بسبب ضيق العيش، وتقول رشا عبد العليم، التي تنتظر طفلًا جديدًا: إنها تعيش في غرفة أسفل أحد المنازل مع عائلتها المكونة من زوجها الذي يعاني من آلام الغضروف ووالدته الضريرة وشقيق زوجها المعاق وحفيدتها لابنها السجين، بالإضافة إلى ابنتيها والتي تعاني إحداهما من مرض حساسية الصدر والأخرى من لالتهاب الرئوي؛ نتيجة عدم التهوية الجيدة في غرفة عقار آيل للسقوط، يخشون أن يسقط فوق رؤوسهم جميعًا دون أن يشعرون. وحذر فتحي محمود عبد الدايم من الحوادث التي تكررت أعلى كوبري القباري قبيل عمليات التطوير وغلقه، حيث جمع الأهالي أشلاء أحد الأطفال دهسته سيارة مسرعة، وبترت ساق طفلة أخرى، مطالبًا الحكومة بضرورة إيجاد حلول للحد من تلك الحوادث. مساكن بديلة من جانبه قال اللواء أحمد متولي، رئيس حي غرب: إن منطقة كوم الملح تدرج ضمن العشوائيات، ودخول مرفق الكهرباء لها لا ينفي التعدي الذي وقع عليها من الأهالي، مؤكدًا أن الحي على علم بتلك التعديات ويتغاضى عنها ويسمح بدخول المرافق؛ لأنهم "كده كده بيسرقوها" على حد قوله، وبالتالي فهو يقطع عليهم اللجوء للطرق غير المشروعة، إلَّا أن ذلك لا يعني أنهم لا يرتكبون أفعالاً مخالفة للقانون. ودلل متولي على تصريحاته ل"البديل" بأن جميع العقارات المخالفة تدخل لها مرافق المياه والكهرباء والغاز ومع ذلك لا نستطيع إثبات عدم مخالفتها للقانون، مضيفًا أن وحدة تطوير العشوائيات بمحافظة الإسكندرية خصصت مساكن "إيجي كات" بحي العجمي لسكان كوم الملح بالقباري، إلَّا أنه لم يتعرف إلى الآن على موعد الانتهاء منها وتسليمها للأهالي.