الدين الذي هو مرساة للنفس مؤتمنة, وأداة فاعلة في الحفاظ على السلم الاجتماعي والرضا بالحال, في خضم تلك الحياة المضطربة, كما يعطي تفسيرا منطقيا للموت, ذلك المجهول الذي يهابه الجميع, و يؤمن به الملحد كالمؤمن سواء بسواء, كما أن الدين يعطي أملا فيما بعد الموت, فالحياة الدائمة هي الأمل, فهي بلا مشاكل وفيها كل الإشباعات المعنوية والحسية. لكن الدين -وأتكلم هنا عما نسب لإبراهيم من ديانات- ارتبط منذ البداية بمستوى فائق من العنف ابتداء من المجازر التي قام بها "يشوع" وإلى الآن, والغريب بل المضحك المبكي أن أتباع الديانات الغارقين في التباهي بالمجازر التي قام بها أسلافهم- يتباكون حزنا على ضحاياهم السابقين والحاليين ممن ذبحهم أتباع الديانات الأخرى! والديانات في الواقع تعبر عما يدور في خيال الإنسان من رغبات و طموحات وأطماع وتجسد تصوراته وآماله ومخاوفه, فالعنف والقسوة هما جزء من غريزة الإنسان الطبيعية, فمرتكبو الجرائم من "السيكوباتيين" وسواهم لا يحتاجون لغطاء أخلاقي يبرر لهم قسوتهم و عدوانهم, لكن ذلك المستوى من القسوة قد يكون عسيرا على قطاع واسع من البشر الأسوياء؛ فيحتاجون غطاء أخلاقيا يبيح و يبرر, بل ويقدس الإبادة الجماعية التي حدثت في تاريخ كافة الأديان، السماوي منها والوضعي, تلك المجازر التي لم يشاركوا فيها وربما ما استطاعوا إن أرادوا, لكنها بالنسبة لهم يجب أن تخضع لمنظومة شرعية تبررها. وربما لو تجردنا قليلا من العوامل المؤثرة كبشر نتمتع بسواء نسبي؛ سندين حتما تلك الإبادات التي قام بها مؤسسو الأديان الأوائل, بل وحتى الديانة المسيحية التي لم تمارس ذلك المستوى من العنف في قرونها الثلاثة الأولى, ردت الصاع صاعين بل صاعات على مدى العشرة قرون اللاحقة, من ذبح و تقتيل وإبادة جماعية "للجرمان و الألبيين" والهنود الحمر وسواهم . لكن لا يجب تحميل النص الديني وحده مسؤولية العنف السابق والحالي, فالنص الديني قابل للتأويل والتحجيم في نطاق تاريخي معين, لكن العنف الذي يمارس تحت مظلة الدين هو مشبع للإنسان في الواقع؛ لذلك فهو مستمر وسيستمر, فما أسهل أن تستر أطماعك فيما هو بيد الآخرين تحت ستار مهاجمة الكفار (الحروب الصليبية مثالا), أو رغبتك في إيجاد أرض للحياة الزراعية والسكنى بدلا من البداوة والرعي تحت ستار أرض الموعد التي وصفوها بأنها تفيض لبنا وعسلا في حين أن واقعها يؤكد أنها في معظمها قاحلة ومجدبة لكنه كان المتاح و السهل, كما كان وسيلة سهلة لتجميع الفقراء والمعدمين ودفعهم للوحدة والسعي لتكوين إمبراطورية شاسعة يستحيل بقاء أمجادها لفترة طويلة. فالنص الديني في النهاية حمال أوجه، ويمكن تحميله بكل مطالب الإنسان- الطيب منها و الرديء- وكما يحض الدين على القيم الحميدة التي تحفظ للمجتمع وحدته ونقاءه, وتحميه من المطامع والعنف الداخلي فيعاقب المخطئ, إذ إن الدين في الماضي كان يقوم بدور القانون حاليا, لكنه أيضا كان يساعد في تجميع الجهود العسكرية لمواجهة الخطر الخارجي, أو القوة الدافعة للاستيلاء على ممتلكات الغير, والمبرر المقبول لإزهاق حياة الآخرين مع استرقاق البعض وانتهاك أعراض البعض, دون شعور حقيقي بالذنب, تلك الأفعال التي يمكن أن تتم الآن تحت اسم الوطنية أو القومية. لا شك أنه طبقا لنظريات اجتماعية كثيرة (مالتوس مثالا) فالحروب تمثل ضرورة للحفاظ على الجنس البشري ذاته, وعلى الرغم من قسوة تلك النظريات لكنها الحقيقة التي لا مفر منها ف"لَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ"، فالقسوة غريزة طبيعية كالجنس و الطعام, لكن النظرة الحالمة للأمور تجعلنا نطمح للإنسانية أن تتجاوز ذلك المنطق القاسي, وتنتقل لمرحلة يسود فيها الحب والعدالة والسلام.