مصر، سلة غلال الشرق، أو هبة النيل أو المصريين، اعتبرها كل ما سبق، لكن ضع في اعتبارك أنها شهدت أول ثورة للجياع في تاريخ البشرية، شهدت قرابة 147 واقعة ثورية، بين ثورة مكتملة أو إضراب أو احتجاج عمال، أو انتفاضة شعبية للمطالبة بالغذاء.. إذا بادرك ذهنك بالسؤال: هل شهدت مصر ثورات للجياع؟ هل يمكن أن تتعرض مصر لمجاعة؟ فقدم له تلك الإجابة على طبق فارغ وقت الغداء، وتأكد أن التاريخ يذكر أنه كلما اشتد الفقر وطأة، كان حلم الخلاص من الحاكم هو الهدف. الدكتور صلاح هاشم، يقدم في كتاب جديد، عنوانه «ثورات الجياع»، صدر حديثًا عن هيئة قصور الثقافة، قراءة سوسيولوجية للثورات في تاريخ مصر، ضمت 229 صفحة من القطع المتوسط، بغلاف للفنان أحمد فؤاد صالح، يحكي لنا عن ثورة الفرعون الجائع، من خلال قراءة اجتماعية لبرديات ايبور، وفي فصل منفصل يروي قصة البطالمة والرومان والطريق إلى آلهة الطعام، ويخصص الفصل الثالث لتاريخ المسلمين والمجاعة، يحكي فيه عن سنوات من الخوف والجوع، وعن الصراع ما بين الجوع والكرامة يأتي الفصل الرابع بعنوان ثورتا القرن، ويختتم الكتاب بفصل يسأل في عنوانه: هل نحن مقبلون على مجاعة؟ المؤلف يؤمن أن في حياة الأمم والشعوب أيام لا تنسى، تظل ماثلة أمام الأجيال المتعاقبة، تمتاز بأنها من الأيام الفارقة الصانعة للتغيرات الكبرى، أيام تؤصل وتجسد مستقبل الشعوب وآمالها وطموحاتها، لذا بدأ فصله الأول بقول مأثور عن أحد كبار السن يقول لأولاده: «أحدثكم عن الجوع الذي مر بنا.. وكم أخاف أن تحدثوا أبناءكم عن النعمة التي مرت بكم». من المنطقي أن نجد الكتاب صادر في وقته المناسب، بعد موجات الغلاء وحالات التدهور الاقتصادي والانفلات الأمني، فضلًا عن العمليات الإرهابية التي يتعرض لها حاملي الجنسية المصرية داخل الحدود أو خارجها، لكن المؤلف فضل التوضيح، إذ يقول: التفكير في هذا الكتاب جاء تحديدًا أعقاب الاحتجاجات العمالية إبان نهاية حكم مبارك، والتي تحددت مطالب أصحابها في رفع رواتبهم، وتحددت مشكلاتهم في انخفاض رواتبهم، وعدم كفايتها في إشباع حاجاتهم الأساسية. إذن عندما يصبح إشباع الاحتياجات الأساسية هدف عام لقطاع كبير من الشعب أو ربما طموح، فلتعلم أن هذا الشعب قادم لا محالة على كارثة تاريخية عنوانها "المجاعة".. هذا ما يود توضيحه المؤلف، الذي وضع أمامه 5 محاور رئيسية في البحث: لماذا قامت الثورة؟ من الذي قام بها؟ ما الأساليب والوسائل التي اتبعت في الحشد والتعبئة؟ كيف تعامل النظام مع الثوار والأزمة؟ النتائج التي انتهت إليها الثورة حتى مرحلة الاستقرار؟ تطرق «هاشم» في كتابه إلى الفترة التي قضتها الثورة حتى هدأت، والمغارم التي تحملها الوطن، وأكثر الفئات تضررًا من الثورة، وسار بتلك الآلية بدءًا من العصر الفرعوني، مرورًا بالعصر البطلمي والروماني، ثم العصر الإسلامي، وانتهى بثورة 25 يناير التي يراها أنها هجين من الصراع بين الجوع والكرامة. أيبور، ذلك الحكيم الفرعوني، الذي وصف في برديته أول ثورة للجياع ربما في تاريخ البشرية كلها، بشكل تفصيلي، وضم فيها نصائح للملك بيبي الثاني، الذي حكم البلاد لأكثر من 96 عامًا، انتهت بثورة تمكن بها الشعب المصري من خلع حاكمه المستبد، وبرغم نجاح تلك الثورة في خلع الملك، والقضاء على فكرة الحاكم الإله، إلا أن التضحيات كانت جسيمة، فيذكر المؤرخون أن الدولة المصرية ظلت في حالة فوضى لأكثر من 180 سنة، ولم ينسى التاريخ إضراب العمال في عهد رمسيس الثالث الذي سار على نهج سلفه رمسيس الثاني، حين ارتفعت الأسعار دون أن يتبع ذلك زيادة في الأجور. أيبور في برديته لخص أحداث الثورة الأولى، بأبيات شعرية قال فيها: «نامي مجاعة الشعب نامي/ حرستك آلهة الطعام/ نامي فإن لم تشبعي/ من يقظة، فمن المنام/ نامي على زيف الوعود/ يذاق في عسل الكلام/ نامي تزرك عرائس الأحلام/ في جنح الظلام/ تنوري قرص الرغيف/ كدورة البدر التمام»، ووصف فيها: انقلبت البلاد إلى عصابات، لا أحد يعمل في الحقول، امتنع الشعب عن دفع الضرائب، توقفت التجارة مع البلاد المجاورة، هجم الناس على مخازن الحكومة، واعتدوا على مقابر الموتى، صب الناس انتقامهم على الأغنياء، فنهبوا القصور، إن الأصلع الذي لم يكن يستخدم الزيت أصبح يمتلك الأواني المليئة بخير أنواع العطور، والفتاة التي كانت تذهب إلى النهر لرؤية وجهها أصبحت تملك مرآة في المنزل. بردية الحكيم أيبور تأرخ لفترة من الصعب التوقف عن الكلام عنها، إلا بالجملة التي تصدرت آخر فصول الكتاب: «لن تنهض مصر من كبوتها إلا إذا أدرك النظام أن الطعام حق لكل فم.. وأدرك الشعب أن العمل فرض على كل ساعد»، فبعد ثورة بناير تزايدت معدلات الفقر في مصر بصورة ملحوظة، سواء إذا ما قيست بعدد الأسر التي تعيش عند مستوى الفقر أو أقل منه، إذ أوضحت مسوح الاستهلاك في أوائل 2012 ارتفاع معدل الفقر الكلي، مع عدم قدرة 44% من السكان على الإنفاق بشكل كاف للحصول على الحد الأدنى من الغذاء المناسب. كل ما سبق يشعرك وكأن مؤلف الكتاب شخص سوداوي، إلا أنه وسط كل هذا مازال يمتلك الأمل، إذ يقول: لا شك أن الأمل موجود، ولكن ليس وحده ولا بالتمني تحل المشكلات أو تنهض الأمم، فنحن بحاجة إلى سياسات جديدة قادرة على تجاوز أزمات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي الذي نعيشه، فالواقع يقول أن أزمتنا ليست في مواردنا ولا في ندرتها، وكبوتنا ليست في حجم تعدادنا، وإنما هي في طبيعة البشر، العقلية التي يفكرون بها، والأساليب التي يتبعونها في مواجهة مشكلاتهم اليومية، والخطط التي يرسمونها لتنمية ذواتهم والمجتمع الذي يعيشون فيه، كما أن المشكلة ليست في المكان، واقصد به جغرافيا الوطن، وإنما في الزمن الذي يسوقنا امامه ويباغتنا، فإما أن ننتصر عليه، أو ينتصر علينا.