لعل أحدا لا يختلف على أن الغرب أكثر تقدماً وحداثة منا، لكننا كثيراً ما ننظر للأمر من زاوية الأخلاق فنرى أنفسنا الأكثر تديناً وأخلاقاً، وعلى الرغم من وجود تيار ثقافي قديم وأصيل لا ينظر للغرب تلك النظرة الضيقة، لكننا كثيراً ما نغبط أنفسنا على هذا الذي يميزنا عن الغرب، وهي نظرة سطحية لواقعنا المعاصر تؤكد أننا لا نقدر أن نعيش بدون الغرب واختراعاته في كل المجالات، المدني منها والعسكري. وعلى الرغم أن بعضنا يسب الغرب ليل نهار متهماً إياه بكل النقائص، ويحمله المسؤولية عن كل مأزق تاريخي تعرضنا ونتعرض له، لكن مع ذلك فنحن نمتلك بل ونحرص على امتلاك ما كل ما ينتجه الغرب من أدوات الحياة العصرية، والغرب من ناحيته لا يمانع في امتلاكنا لسياراته وهواتفه وأقماره الاصطناعية وسلاحه، بل يسمح لنا -رغم قدرته على منعنا- بتصنيع تلك الأدوات محلياً لو رغبنا، فنقدر لو أردنا أن ننتج السيارات والملابس والهواتف، بل وحتى الدبابات والمدافع. ورغم عدائنا للغرب وإحساسنا أنه يبادلنا نفس الكراهية والعداء –وهو الأمر الذي سأفترض صحته- لكنه في الواقع مستمر فيما يقدمه، ونستمر نحن في تلقيه، وشرقنا العربي لا تنقصه الأموال كيما يتقدم لكنه في الواقع ليس متقدمًا، نمتلك كل أدوات الحضارة لكننا لا نتقدم، عقود طويلة مرت والعالم من حولنا يتقدم ونحن نتراجع، سلوكياً واجتماعياً، مساحة الحريات العامة والخاصة تضيق علينا على الرغم من أن قوانيننا التي استوردناها من الغرب تتيح لنا الكثير من الحريات، والحكومات لا تمنعنا، لكننا نمنع أنفسنا بأيدينا عن ممارسة الحرية، بل وزادت مساحات الشك والخوف من الاَخر المحلي فلم نعد نتيح لأنفسنا مساحة من الثقة المتبادلة، صرنا نمارس سلوكيات عدوانية ضد بعضنا البعض، تبدأ بسوء النية المبيت ومروراً بالسباب والعراك والشجار، التي لا تنتهي بالقتل و إزهاق الأرواح. الغرب الذي يعلم علم اليقين أننا لا نطيقه يبيعنا منتجاته الأحدث، وينشر أبحاثه الأخطر على شبكات التواصل الاجتماعي، الغرب يتيح لنا كل تلك الأدوات الحضارية رغم علمه أن بعضنا قد يصدم أبراجه بطائراته، ويضع قنابله في قطاراته ويذبح مواطنيه بسكاكين مسنونة بالليزر الذي طوره، لكنه لا يمنعنا تلك الأشياء التي قد تضره. الغرب الذي يكرهنا ونمقته ليس أحمقاً ولا هو مجرد تاجر شاطر يبيعنا أشياءه ليستخرج الأموال من جيوبنا الخاوية، التي خوت لا لفقر بلادنا بل لفساد وحماقة بعض حكامنا، بل هو يعلم، وهو مصدر كل إرهاب، أننا ولو امتلكنا كل أدواته بل وصنعناها فسنقتل بعضنا قبل أن نصل إليه، فنحن لا نمثل خطراً عليه بل خطرنا الأعظم يقع علينا نحن، إذ نفتقد لأقل قدر من الثقة في أنفسنا، الذي يجعلنا نتقبل بعضنا باختلافاتنا وتنوعاتنا، فالغرب بحنكته التاريخية يعلم أننا لم نحقق لأنفسنا منهجا إيجابيا نتبعه (أو مناهج) نسير في ضوئه، ونسلك في هديه للطريق الذي سبقنا هو إليه، بل إن المنهج الوحيد الذي أوجدناه كان منهجاً قاتماً مظلماً اتفقنا فيه على ألا نتفق، فلا فهمنا معنى الوطن ولا عشنا براءة الدين، بل ونستخدم كل أدوات الغرب الحديثة في نشر منهجنا المظلم الهدام. الغرب المتقدم و قبل أن يطور أدواته طور أفكاره عن الحياة، فقبل أن يظهر أديسون كان هيجل، وقبل فاراداي كتب كانط كتبه، وقبل أن يستخدموا اختراع ماركوني اًمنوا بما قدمه شوبنهاور ولوثر وغيرهم، لقد تقدموا بعقولهم قبل أدواتهم فوجدت عندهم دوافع التقدم قبل أن يكونوا متقدمين بالفعل، والمفكرون الذين ذكرتهم لا أظن أن عوامهم يعرفونهم حق المعرفة أو يعرفون ما قدموه؛ لأن أفكارهم خرجت من رفوف المكتبات لتصير سلوكاً يومياً عند رجل الشارع العادي. أما نحن فقد وأدنا ابن رشد بالغزالي، ونعتنا المعتزلة بالمتكلمين، وقتلنا الحلاج، وتشفينا في موت نصر حامد أبو زيد، بمرض غريب فهو عقاب إلهي، ولو أدركنا الحقيقة لعلمنا أننا بالفعل نعاقب أنفسنا؛ لأننا بالفعل نستحق سوء العاقبة .