ليس الأثر حجراً أصم يؤرخ لزمان جامد ومعزول عن عالمنا الحالي، لكنه يحكي تاريخًا زاخرًا عاصرته المحروسة، فكل مبني له حكايته وتاريخه الذي يعبر عن هوية مصر. لكن مازالت المساجد الأثرية تعاني من الإهمال الجسيم؛ نظرا لخضوعها إلى إشراف وزارتي الآثار والأوقاف، اللاتى تلقى كل منهما مسئولية الإهمال على الأخرى، دون إدراك حجم الكارثة التى تهدد بضياع الحضارة المصرية القديمة. «خانقاة بيبرس الجاشنكير».. أفخر المبانى المملوكية التي تقع بشارع الجمالية الموازي لشارع المعز، بناها بيبرس الجاشنكير، أحد مماليك المنصور قلاون، اشتراه صغيراً ورفعه إلى مرتبة الأمراء وجعله جاشنكيرا، أي أمينا على سلامة الطعام قبل تقديمه للملك، ثم صار فيما بعد استادارا، أي ناظر الخاصة، فى أيام الناصر محمد بن قلاون، وظل كذلك إلى أن ولى الملك بعد خلع الناصر محمد سنة "708 هجرية، 1309م"، وتلقب بالملك المظفر، ولم يدم ملكه طويلاً، حيث قتل فى سنة "709 هجرية، 1310م". تقول سالي سليمان، صاحبة مدونة البصارة المهتمة بالآثار والتراث، إن «خانقاة بيبرس الجاشنكير» فخر العمارة المملوكية، تحول إلي مزبلة، حيث ضرب الإهمال الأثر تماماً، فالكراسي الخشبية داخل المسجد والحوائط متأكلة من الأملاح، لافتة إلى أن وزارتي الآثار والأوقاف اللاتي تخضعان لرئيس مجلس الوزراء إبراهيم محلب، الذي يترأس جهاز القاهرة التاريخية لحماية الآثار، يسيطر عليهما البيروقراطية في التعامل المشترك للحفاظ علي الأثر، في حين أن الآثار تبكي الإهمال دون وجود ترميم لهذه المساجد وعدم اهتمام. وأضافت: «منذ ما يقرب من شهر، كان هناك اجتماع بين وزارات الآثار والأوقاف والسياحة؛ للعمل علي تشكيل لجنة عليا لترميم المساجد الأثرية والترويج لها سياحياً، وبحسب القانون، فإن الإشراف على الترميم يكون من خلال وزارة الآثار، بينما تدفع وزارة الأوقاف التكاليف لكونها المالكة للعقار، ولا تستطيع تنفيذ أى تجديدات دون موافقة وإشراف وزارة الآثار». من جانبه، أوضح المهندس مرسي البحراوي، رئيس الإدارة الهندسية بوزارة الأوقاف، أن خانقاة بيبرس الجاشنكير، تابع لمديرية الأوقاف بالقاهرة، والمسئولة عن إدارة المساجد بمنطقة الجمالية. على الجانب الآخر، يقول جابر طايع، وكيل وزارة الأوقاف بالقاهرة، أن «خانقاة بيبرس» مسجد أثري يتبع وزارة الآثار، ومسئولة عن الأثر وترميمه وتطويره. الجدير بالذكر أن المسجد جزء من الخانقاه التى شرع بيبرس فى إنشائها سنة "706 هجرية، 1306م" قبل أن يتولي الملك وأتمها فى سنة "709 هجرية، 1309م" وبنى بجانبها رباطا كبيرا يتوصل إليه من داخلها، وألحق بها قبة أعد فيها قبرا له وقد قام الخانقاه على جزء من أرض دار الوزارة الكبرى التى أنشأها الوزير الفاطمى الأفضل شاهنشاه. ويوجد بالمدخل الواقع على شارع الجمالية بابان، يؤدى أحدهما إلى طرقة توصل إلى القبة، ويؤدى الثانى إلى ممر يوصل إلى صحن المسجد المكشوف الذى يشرف عليه إيوانان متقابلان أكبرهما إيوان القبلة الذى تغطيه قبوات معقودة ويحف به من الجانبين منوران مكشوفان للتهوية. ويغطى الإيوان الآخر قبو بنهايته الغربية منور للتهوية كذلك، أما الجانبان الآخران من الصحن فيشغلهما خلاو وأبنية مرتفعة تطل نوافذها على الصحن ويتوسط كل منهما مصلى، أما القبة فقد فرشت أرضيتها بالرخام الأبيض والأسود، كما غشيت جدرانها بوزرة من الرخام الملون يعلوها طراز خشبى محفور به آيات قرآنية، وبالقبة محراب شاهق يحاكى فى حجمه محراب قبة قلاون، إلا أنه أقل منه شأنا، ويتخلل الوزرة الرخام دواليب حائطية يفتح بعضها على ممر مسحور فى جدار القبة للإضاءة والتهوية. وبأركان القبة مقرنصات من أربع حطات بينها أربع مجموعات من الشبابيك الجصية المفرغة المحلاه بالزجاج الملون والقبة مفتوحة من الجهة الغربية على إيوان مسقوف بوسطه شخشيخة ويفصله عنها حاجز من الخشب الخرط كتب بأعلى بابه اسم المنشئ وتاريخ الفراغ من بناء الخانقاه سنة 709 هجرية، ومع أنه قد عنى بزخرفة القبة من الداخل، فإنها تركت من الخارج بسيطة خالية من كل زخرف محاكية فى ذلك قبة الصالح نجم الدين. وتشمل الوجهة على المدخل ووجهة القبة، أما المدخل فيغطيه عقد نصف دائرى صنجه على شكل كعوب كتب متراصة بداخله الباب المفتوح فى صفة مكسوة جدرانها بالرخام الأبيض وتغطيها طاقية بركنيها مقرنصات مكونه من خمس حطات، ويكتنف الباب محاريب يعلوها طراز مكتوب عليه آيات قرآنية، وللباب مصراعان مكسوان بصفائح من النحاس على هيئة أشكال هندسية بداخلها حشوات محفورة ومفرغة بزخارف جميلة بأعلاها وبأسفلها طراز مكتوب عليه اسم المنشئ، أما ظهر الباب فمقسم إلى حشوات مزدانة بزخارف جميلة محفورة فى الخشب. والجزء البارز من الواجهة يكون وجهة القبة وهى مقسمة إلى صفة كبيرة فى الوسط تنتهى بأربع حطات من المقرنص وبأسفلها شباك كبير من النحاس حل محل الشباك الذى يقال إنه نقل إلى مصر من دار الخلافة العباسية ببغداد فى زمن الفاطميين، وعلى يمين ويسار هذه الصفة صفتان أقل منها اتساعا، ويمتد بطول الواجهة جميعها طراز من الكتابة المحفورة فى الحجر بها آيات قرآنية واسم المنشئ دون لفظ الملك الذى محى بأمر الناصر محمد بعد عودته إلى ملكه وقتل بيبرس، هذا ويتوج الواجهة شرفات مسننة. وتقوم المنارة أعلى المدخل وهى على طراز المآذن التى بنيت فى أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن الهجرى والتى كانت تسمى بالمباخر، الطبقة الأولى منها مربعة وتنتهى بمقرنصات متعددة الحطات تكون دورة المنارة والطبقة الثانية أسطوانية تنتهى بكرنيش من المقرنص كذلك، والطبقة الثالثة أسطوانية أيضا تغطيها قبة مضلعة كانت مكسوة بالقشانى الذى كشف عن جزء منه أخيرا وتعتبر أول مثل لكسوة قمم المنارات بالقشانى.