تجاعيد وجهها تحكي سنوات النضال التي عاشتها من أجل حرية ورفعة بلادها، وتجسد عصور الاستبداد التي رأتها هذه المناضلة، ابتسامتها تكفكف كل الآلام التي أصابت أرضها وتراب وطنها، جسدها الضعيف المنهك يحمل معالم التعذيب الوحشي الذي كانت تتحمله في معتقلات الاحتلال الفرنسي،.. المناضلة الجزائرية "جميلة بوحريد". جزائرية مناضلة، ولدت عام 1935 في حي القصبة من أب جزائري وأم تونسية لأسرة متوسطة الحال، كانت البنت الوحيدة بين سبعة أولاد، وتلقت "جميلة" علومها في مدرسة فرنسية كانت تجبر الطلاب على غناء نشيد "فرنسا أمُنا" في كل صباح، إلا أن المناضلة الصغيرة وبفعل انخراطها في الحياة النضالية منذ أيام الدراسة كانت تغني "الجزائر أمُنا"، ما دفع ناظر المدرسة الفرنسي إلى معاقبتها بشدة، ومن هنا بدأت تتشكل حياة النضال ل"بوحريد". مع اندلاع الثورة الجزائرية عام 1954، انضمت "جميلة" إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية للنضال ضد الاحتلال الفرنسي، وهي في العشرين من عمرها، ثم التحقت بصفوف الفدائيين وكانت أول المتطوعات لزرع القنابل في طريق الاستعمار الفرنسي، وعندما اكتشف جنود الاحتلال أمرها أصبح الجيش الفرنسي ومخابراته يطاردونها، وكان دور "جميلة" النضالي يتمثل في كونها حلقة الوصل بين قائد الجبل في جبهة التحرير الجزائرية ومندوب القيادة في المدينة "يوسف السعدي" الذي كانت المنشورات الفرنسية في المدينة تعلن عن دفع مبلغ مائة ألف فرنك فرنسي ثمنًا لرأسه. نظراً لنشاطها في المقاومة أصبحت "بوحريد" المطلوبة الأولى على قائمة الجيش الفرنسي ومخابراته إلى أن تم القبض عليها عام 1957، حيث كانت متوجهة ل"يوسف السعدي" برسالة جديدة، لكنها شعرت أن هناك من يتبعها فحاولت الهروب، غير أن جنود الاحتلال طاردوها وأطلقوا عليها عدة رصاصات استقرت إحداها في كتفها الأيسر، وحاولت المناضلة الاستمرار في الانفلات غير أنها سقطت على الأرض تنزف دماً فألقي القبض عليها. منذ أن دخلت المستشفي بدأت رحلتها القاسية من التعذيب استمرت سبعة عشر يومًا متواصلة، وصلت إلى الصعق الكهربائي من قبل قوات الاحتلال الفرنسي لدرجة جعلتها تغيب عن الوعي وحين تفيق تقول "الجزائر أمُنا"، وإطفاء أعقاب السجائر في صدرها وأنحاء كثيرة من جسدها، حيث لم تتحمل المزيد وأصيبت بنزيف استمر خمسة عشر يوما، ومع ذلك تحملت الآلام ولم تعترف بأسماء وأماكن وجود رفاق ضربها في المقاومة. انتقلت جميلة لسجن "بار بدوس" أشهر مؤسسات التعذيب في العصر الحديث، حيث بدأت نوبات أخرى من التعذيب استمرت إحدى جلساتها إلى ثمانية عشر ساعة متواصلة حتى أغمى عليها وأصيبت بالهذيان، تم بعدها السماح لها بوجود تحقيق رسمي حيث حضر هذا التحقيق المحامي الفرنسي "ميسو قرجيه"، الذي قال لها "لست وحدك فكل شرفاء العالم معك"، وحين فشل المعذِّبون في انتزاع أي اعتراف منها، تم تقديم "بوحريد" إلى محاكمة صورية، انتهت بتوجيه تهم إحراز مفرقعات، والشروع في القتل، والاشتراك في حوادث قتل، وفي حوادث شروع في قتل، وتدمير مبان بالمفرقعات، والاشتراك في حوادث مماثلة، والانضمام إلى جماعة مسلحة من القتلة، انتهت المحاكمة بصدور الحكم بإعدامها، وأثناء المحاكمة وفور النطق بالحكم أطلقت جملتها الشهيرة "أعرف أنكم سوف تحكمون علي بالإعدام لكن لا تنسوا إنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة". حدد يوم 7 مارس 1958 لتنفيذ الحكم، لكن العالم ثار ضد الحكم والمحاكمة الصورية التي تمت في قضية "جميلة"، واجتمعت لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، بعد أن تلقت ملايين من برقيات الاستنكار للحكم من كل أنحاء العالم وطالبوا بإطلاق سراح المناضلة، الأمر الذي أدى إلي تأجيل تنفيذ الحكم، ثم تعديله إلى السجن مدى الحياة. لم تلبث "بوحريد" في سجن الجزائر سوى 3 سنوات، نُقلت بعدها إلى سجن فرنسي، قضت فيه سنتين، ليطلق سراحها مع بقية رفاقها في إطار المفاوضات بشأن إطلاق سراح الأسرى الجزائريين تدريجياً، إثر توقيع اتفاقيات "إيفيان"، وإعلان استقلال الجزائر عام 1962، تولت "جميلة" رئاسة اتحاد المرأة الجزائري، لكنها استقالت بعد سنتين وأخلت الساحة السياسية، محبّذة أن تعيش حياة البسطاء، رغم كل الضوضاء التي أحاطت بنضالها. رأت "جميلة بوحريد" الكثير من المآسي التي صنعها الاحتلال الفرنسي في أهالي الجزائر عامة وأقارب المناضلة بشكل خاص، ما جعلها تعرف طريق النضال منذ الصغر، حيث تم إلقاء القبض على عمها "مصطفى" الذي علمها الفداء من أجل الوطن وكان عضوًا بجبهة التحرير الجزائرية وقام الاحتلال بإعدامه، ما أثر في "جميلة" وجعلها تحاول أن تثأر له، كما تم إلقاء القبض على أخيها الذي لم يتجاوز الخامسة عشر عاما، وتعذيبه فاستشهد أثناء التعذيب. رغم أن "جميلة بوحريد" تعيش متوارية عن الأنظار، إلا أنها انتقدت النظام الجزائري الحالي في العديد من تصريحاتها، ونددت بكل المساوئ التي أصابت الجزائر، خاصة فيما يتعلق بنهب واختلاس المال العام والفساد والرشوة وسياسة اللاعقاب التي انتشرت، وكذلك خنق منظمات المجتمع المدني، وشددت على أنها قلقة على مستقبل الجزائر، التي ضحى من أجل استقلالها مليون ونصف مليون شهيد. تعتبر "بوحريد" المرأة الأكثر شهرة في التاريخ الحديث، وتلقب ب"الشهيدة الحية"، حيث تحولت إلى رمز لثورات التحرر في إفريقيا والعالم العربي خلال الخمسينيات من القرن الماضي، ففي سبيل مقاومة الاستعمار نسيت "جميلة" أحلام كل الفتيات من جيلها وأظهرت أمام المستعمر الفرنسي رجولة وشراسة وندية.