كتب: حمادة جمال قطب – أحمد الدليل جلساته تشمل "السب والقذف" وتفصل في قضايا الدم أحكامه ملزمة.. وضمانات صارمة للتنفيذ الشرطة تدعم أعماله.. ومشاكل الثأر المعقدة تنتهي في ساعات الجلسات العرفية، أو "القضاء العرفي" أو "قعدة العرب"، كما يحلو للبعض أن يطلق عليها, حقنت دماء كثير من الأبرياء، وردت الحقوق لعدد كبير من الضعفاء والمظاليم, واقتصت من بعض القتلة والمتجبرين، وحفظت الأعراض وحمت العهود والاتفاقات. والقضاء العرفى أعراف تحكم القبائل العربية والعائلات الكبيرة, تمزج بين أحكام الشريعة الإسلامية وما اتفق عليه التقليد السائد في مجتمع القبيلة والأعراب, وتكتسب قوتها وأهميتها من توثيق أحكامها بالمحاكم، وفقًا لإجراءات قانونية, وهومؤلف من مشايخ القبائل ومحكمين عرفيين يتمتعون بسداد الرأي والبصيرة والخلفية الدينية والزعامة الشعبية عند جمهور العرب ويحل بديلا عن القضاء الحكومي. ويعرف إبراهيم سالم، رئيس المنظمة المصرية لإدارة الأزمات ومن مشايخ العرب، العرف القبلي علي أنه مجموعة من العادات والتقاليد والأحكام والنظم التي تحكم المجتمع القبلي، وتعتبر إلزاما بين أفراد القبائل وبذلك يكون قانونا اجتماعيا يحكم بهدف إقامة العدل وإقرار السلام الاجتماعي بين القبائل والعائلات. وتنتشر المحاكم العرفية غالبا بالمناطق الريفية، وتنجح في زمام العائلات وأماكن تواجد أبناء القبائل العربية، وتشتهر بها محافظات عديدة من بينها محافظة الفيوم ومحافظة المنيا، حيث تحتفظ بتقاليد معروفة بشدتها وأعرافها وطباعها الصارمة, وتسيطر الجلسات العرفية على الخلافات والنزاعات بين الأهالي، وتتحطم على صخرتها أغلب المشاكل ومنها قضايا الدم والثأر، بعدد من جلسات المفاوضات و"قعدات العرب" لإرضاء كافة الأطراف المتنازعة، حيث يقبل الجميع بأحكامها ويخضع لتعليماتها، ولأنها تقدم أحكامها بعد توثيقها إلى المحاكم الرسمية لاعتمادها وإخلاء سبيل المتهمين لتطوى صفحات الخلافات، وساعد في انتشارها ونجاحها وجود عدد كبير من العائلات والقبائل العربية التي استوطنت قرى ومدن كثير من المحافظات منذ سنوات بعيدة قادمة من شبة الجزيرة العربية أو من أصول ليبية ومنها في محافظة الفيوم على سبيل المثال وليس الحصر كما يقول الحاج حمدي أمين، بمركز سنورس، "قبائل سليم"، التي نزحت من ليبيا إثر معارك داخلية دامت أكثر من 7 سنوات ابتداء من 1717 وانتهت في عام 1724، وانتقلت "قعدة العرب" من مجالس القبائل العربية إلى أهالي المحافظة، وجلساتها ملزمة لكل الأطراف بضمانات مالية شديدة وحاسمة للمخالف والرافض للحكم العرفي. ويؤكد أن "الجلسات العرفية" هي الحل الأمثل للمشاكل والخلافات الصغيرة منها والكبيرة التي تبدأ من الشتائم إلى الشروع في القتل والقتل, ولابد أن يتصف الحكم بالصدق والأمانة وأن يكون موثوقا به من الجميع, وفى الجلسة يقوم كل من الطرفين بسرد أخطاء الطرف الآخر, لتقارن هيئة التحكيم بين كلام كل طرف، ثم تقدر كل الأخطاء تقديرا ماديا، وبعد ذلك تقوم بتصفية أخطاء طرف من أخطاء الطرف الآخر، وما يتبقى يدفعه الطرف الغارم، وتنظر المجالس جرائم القتل أو الشروع في قتل وقد تصل "الديّة" في حكمها إلى 400 ألف جنيه, كما تنظر النزاعات التي لا ترقى إلى اعتبارها جرائم، وتكون الدية بها 10 آلاف جنيه. وفي المنيا، لا يختلف الوضع كثيرا، ويقول الحاج أشرف مفتاح، شيخ مشايخ قبيلة الجوازي بالمنيا وعضو لجنة المصالحات بمصر، إن القبائل تلجأ للاحتكام للقوانين العرفية لأن القضايا تمكث سنوات طويلة في المحاكم ولا تعالج جذور المشكلة كما أنها مكلفة، ولأن علي القاضي الحكم بالظاهر ومن خلال مستندات وتحريات وشهود، وقد يخرج الحكم غير مرض ولا يزيل مرارة الأنفس ما يشجع ولي الدم "أهل القتيل" علي الثأر, في حين يتميز القضاء القبلي بالسرعة, فبعض جرائم القتل التي تمكث 7 سنوات بالمحاكم تنتهي في 3 ساعات مدة جلسة الصلح وما يسبقها من جلسات تمهيدية وتحضيرية, وجميع الأطراف لا يخفون الحقيقة أمام القضاء العرفي وبذلك يكون الحكم مرضيا وملزما. ويضيف إبراهيم سالم، أن الالتجاء للأعراف يرجع لما تتمتع به من مرونة ومواكبتها واستيعابها للظرف والمستجد في حدود الممكن بالتراضي والتوافق دون إصرار على حرفية التطبيق, كما أن المحكمين مبرأون من العنصرية ويستمدون شرعيتهم من أفراد القبيلة ويحكمون بأعرافها المرتبطة بثقافة الأهالي والطبيعة الجغرافية، من خلال القيادة الحكيمة وعلاقاتهم المستمدة من الصداقات والمصاهرات والجيرة والحكمة في إدارة شؤون الحياة وفق أعراف رسخت في الوجدان القبلي. ويقول إن الأعراف قديمة وموروثة لذا فهي رادعة لمن يتعدى على سلامة الأنفس والثمرات، وتقضي في النزاعات جميعها ليست فقط المرتبطة بالقتل ولكن النزاع علي الممتلكات والتجريح والضرب وغيرها, كما أنها تتبع أثر الجناة عند هربهم وتطلب من سكان المنطقة التي يهرب إليها الجناة إخراجهم، وتوقع عليهم جزاء إذا لم يستجيبوا. ويؤكد أنه حين يقدم القاضي العرفي ومن معه على إنهاء خصومة ثأرية فإنه يلتزم بأعراف منطقة الصلح، أو نهج مدرسة ينتمي لها, ويتم إنهاء الخصومات الثأرية بنظام القودة "تقديم الكفن"، وتعتمد القودة على قبول الخصم لمبدأ التصالح من خلال لجان المصالحات التى تضم قضاة عرفيين وعواقل القبائل، حيث يحمل من فى رقبته الدم كفنه، ويتقدم به نحو ولي الدم طالبًا العفو. الملفت أن "الجلسات العرفية" تصب في مصلحة الجميع بما في ذلك جهاز الشرطة نفسه الذي يخطر بميعاد انعقادها وأسماء المحكومين المطلوبين, وتدعو الشرطة الحكام بخطاب رسمي. ويقول مسؤول أمني كبير بمركز شرطة سنورس، إن هذه الجلسات مهمة وضرورة خصوصا في المشاكل الثأرية المعقدة التي تدفع بعض العائلات لإخفاء المعلومات عن جهاز الشرطة وترفض البوح باسم القاتل للثار منه، وتؤدي الجلسات أعمالا يصعب على رجال الشرطة أحيانا القيام بها لأنها شبه عائلية, وأضاف أن المشاكل التي تحل تبلغ نسبتها 70% والحكام بهذه الجلسات معروفون لدى القسم ومعروف عنهم حسن سيرتهم وثقة الناس بهم. وأكد أسامة ميخائيل المحامى، أن هذه الجلسات تؤدى واجبا وطنيا وإنسانيا من الدرجة الأولى, مشيرا إلى أنه حضر العديد منها وحققت نتائج مرضية لكل الأطراف مسلمين وأقباطا، وهى مهمة في القرى والأرياف وناجحة بنسبة 90 %. وعن تفاصيل الجلسات يقول منجود الهوارى المحامى, كان لها الفضل مؤخرا وخلال الأيام القلية الماضية في إنهاء الخلاف بين قبيلتي الأشراف والضعفا بمركز شرطة طامية بالفيوم, وأتمت الصلح بين القبيلتين بعد مقتل 2 من الشباب, وأضاف أن اختيار الحكام يكون حسب رغبه كلا الطرفين خصوصا عائلة المجني عليه، ولابد أن يكون عدد أفراد التحكيم فرديا وقد يصل العدد إلى 13 من نفس البلد أو من بلاد مختلفة أو حتى محافظات أخرى، والأهم من ذلك الحرص على التراضي بين الأطراف وليس فقط المصالحة, حيث يذهب الحكام إلى بيت كل طرف ومعهم الطرف الآخر والعكس حتى تزول الضغينة خاصة بين الأقارب, ولضبط الأحداث يوقع كل طرف على أوراق تؤكد رضاه بالحكم مهما كان، وبعد النطق بالحكم يتم توثيقه كتابة ويوقع عليه الحاضرون، وتعتمد المبالغ الواردة بالحكم كالدية والتي تبدأ من 5آلاف، وتصل إلى 2 مليون جنيه أحيانا، والمخالف للتحكيم وشروطه يسدد ضعف المبلغ، وقديما في حالة القتل والثأر كانت عائلة المجني عليه ترد المبلغ بعد الحصول عليه، أما الآن فلا تحدث هذه الحالة إلا بنسبة 40% فقط. وفى حالة امتناع أى طرف عن حضور الجلسة العرفية تخطر الشرطة بذلك لتقوم بدورها القانوني, ويمكن لمن يرفض الحضور لأي سبب أن يرسل برقية يعتذر بها عن عدم الحضور، وإذا شعرت الشرطة أن التأخير أو رفض الحضور يؤدى إلى مشكلة يقوم الضباط باستدعاء الطرف الرافض للحضور بشكل قانوني, ويستغل الحكم العرفي ويتحول إلى حكم رسمي بعد اللجوء للقضاء. والجلسات العرفية بالفيوم تختلف باختلاف المشكلات، فهناك مشكلات تحل فقط بشرب كوب شاي ولا تحتاج أى أوراق، بينما هناك جلسات أخرى تحتاج تدخل الشرطة, وتبدأ المشاكل من الشتائم والتعدي على الأرض والسرقة وتقسيم الميراث إلى جرائم القتل, وفي حالات السرقة إذا لم يوجد "حطاط" وهو شخص يشهد بأن الجاني سرق فيتم تقدير أقل المبالغ حتى لا يقع أى ضرر، ويكون القسم على من أنكر، ولكن إذا وجد "الحطاط" يقسم هو بأن فلانا سرق، فإذا رأى المتهم نفسه بريئا طلب مواجهة "الحطاط", وفى الميراث تكتب أوراق بحق كل فرد حتى لا يتم التعدي عليها. ويروى عبد الوهاب كمال السكري, أمثله على الجلسات العرفية، ويقول إن تبادلا للشتائم حدث بأحد المحلات فلجأ مالكه إلي أهله خارج القرية, واحتكموا إلى إحدى الجلسات العرفية التي قضت بتغريم خصمه مبلغ 5 آلاف جنيه، وأضاف أن شابا كان يبيع السمك في إحدى القرى وتشاجر مع آخر فصفعه على وجهه وقامت أسرة المجني عليه بقتل الشاب، وقام أهل القتيل بحرق محلات الطرف الثاني، فعقدت جلسة عرفية أنهت المشكلة وعاقبت الجاني بدفع مبلغ 500 ألف جنيه. ويقول شيخ مشايخ قبيلة الجوازي بالمنيا، إن اختيار المحكمين هو المرحلة الأولي ضمن مراحل الوصول للصلح حيث يختار كل من طرفي النزاع محكمين يرتضيهم بجانب محكمين تختارهم شيوخ القبائل سواء من داخل الحيز الجغرافي أو خارجه, ويضيف إبراهيم سالم، أن المجالس تتكون من رئيس ومحكِّمين ويكون العدد فرديًا، تجنبًا للخلاف، ويتألفون من مشايخ القبائل ورجال الدين والعمد. وتأتي المرحلة الثالثة وتمثل الدخول في التفاوض، ويبدأ الأجاويد "المحكمون وشيوخ القبائل وأعضاء لجان المصالحات" بسماع كل طرف ثم يجلسون منفردين لتداول ما سمعوه، ثم يجمعون الطرفين لمواجهة بعضهم بعضا وهو ما أكده الشيخ إبراهيم سالم, وأضاف أن المرحلة الثالثة تبدأ باجتماع منفرد للأجاويد لبلورة حلول مستنبطة من رؤى الأطراف، وتقدم هذه الحلول لكل طرف على حدة، وتناقش تعليقاتهم، ثم تعاد صياغة مقترحات الحلول لاستيعاب الممكن من آراء الأطراف، وتدون الحلول في الصورة النهائية لتعرض في شكل إعلان لما انتهت إليه وتكون ملزمة للأطراف، وتعتمدها الدولة وتصبح لها قوة القانون من حيث التنفيذ, حيث يسجل الحكم بالمحكمة الصادر في دائرتها. وأكد عدد كبير من مشايخ العرب بالمنيا ومنهم علي ممدوح، أن المجالس العرفية لا تسمح بحضور المرأة، وإذا كانت طرفا في خصومة يعقد مجلس خاص لا يحضره إلا الأقارب المقربون من العائلة نفسها وشيخها فقط. وعن ضمانات عدم العودة للنزاع بعد الحكم العرفي وما العمل حال حدوثه، يقول شيخ الجوازي أشرف مفتاح، إن هناك ضمانات لتنفيذ الأحكام في صورة شروط جزاء وإيصالات أمانة "علي بياض" يحتفظ بها صاحب المكان "الميعاد" وهو مستضيف جلسة الصلح، كما يحتفظ بمحضر الصلح ومحضر الجلسة, وللمحكمين التصرف وأخذ القرارات حال العودة للنزاع, ويقول إن عددا قليلا من النزاعات وقعت بعد أحكام العرف وتدخل المحكمون لحلها وتوقيع الجزاءات علي أطرافها. ويقول الشيخ عمر المحجوب، عضو لجنة المصالحات بالمنيا إن الشروط الجزائية تختلف عن الدية، فالأولي توضع لمعاقبة أي طرف يعود للخلاف، أما الثانية فيدفعها الطرف الجاني لولي الدم وهو الطرف المجني عليه.