القصة عن وقائع وتاريخ وشخصيات حقيقية، وتعتمد على سرد النقيب "عبد الفتاح تركي" لقصته، والمعلومات التي حصلت عليها من ولده الأستاذ "خالد تركي"، وعلى مذكرات الفريق عبد المنعم خليل، وعلى خرائط الحرب الإسرائيلية لحرب يونيو التي وثقها الدكتور يحيى الشاعر .. (1) المكان: جامعة السوربون، باريس الزمان: صيف 1979 تحت القبة الخضراء الداكنة لأعرق جامعات العالم في مجال العلوم الإنسانية، كان يخطو خارجا من القاعة كلاسيكية الطراز وهو يتأبط ذراعها، خطواته السريعة الواثقة بدت في هذه اللحظة وكأنها لا تمس الأرض، وكانت زوجته تشد على يده التي تعانق كفها وهي تهرول خلفه لتلاحق خطواته الطائرة. كان طالب الدكتوراهالمصري "عبد الفتاح تركي" قد انتهى من مناقشة رسالته في علم الاجتماع التربوي وحصل على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف من السوربون. عند نطق رئيس اللجنة بالنتيجة النهائية التي توجت إحدى عشر عاما من النضال أشرقت في عينيه ومضة نور خاطفة، هل رآها بعين الحقيقة أم بعين الخيال؟ في الردهة الخارجية توقف للحظة ليواجه زوجته الحبيبة وهو يرفع بيديه كفيها إلى شفتيه ويطبع فوقهما قبلة طويلة، ويبللهما بدموعه، كان الامتنان قليلا والعرفان لا يصف شعوره في هذه اللحظة، عندما تشعر بحاجة لأن تتحول بأكملك لكلمة تشكر بها من تحب، فلا تسعفك الكلمات. أما هي، فلم تكن تنتظر شكرا ولا عرفانا، كانت تحبه كأعظم ما يمكن لزوجة أن تحب زوجها، تحبه لدرجة أن تفنى فيه، فيصير هو الحياة، عندئذ، يصير هو ذاتها التي تتحقق، فتعطي بغير حدود، لأننا لا نسأل ذاتنا عما أعطيناها ولا نتوقع منها شكرا. عندما استقلا التاكسي في طريق عودتهما لشقتهما البسيطة القريبة من الجامعة، كانا متجاورين على المقعد الخلفي، ولكن كل منهما جعلته هذه المناسبة التاريخية يحلق بخياله ليستعرض مشوار العمر. العمر يبدأ عندها من اليوم الذي عرفت فيه أنه تقدم لخطبتها، تذكرت أيام الخطبة، ويوم الزواج، ورحلة الحمل وإنجاب طفلتهما الأولى، وبعدها ابنهما، تذكرت ليالي المطالعة الطويلة التي كانت تساعده فيها في الماجستير ثم الدكتوراه، تذكرت تدبيرها لراتب البعثة حتى يكفي احتياجات الأسرة الصغيرة في العاصمة الفرنسية الكبيرة. أماهو، فكانت رحلته مع الذكريات أطول بكثير. (2) المكان: مقر التمركز المؤقت للفرقة الرابعةالمدرعة، شرق السويس الزمان: الساعة الحادية عشرة، مساء الأربعاء7 يونيو 1967م كانت مشاعر مرتبكة تسود القوات التي تبقت من الفرقة الرابعة بعد ثالث أيام القصف الجوي المكثف من قبل العدو، في ظل سماء مكشوفة بعد تدمير الطيران المصري بالكامل في مرابضه بأول أيام الحرب، وهو الخطأ الاستراتيجي القاتل الذي حوكم وسجن بسببه الفريق "صدقي محمود" بعد الحرب. صدرت الأوامر للقوات بالتدرع بما يسمى في العسكرية "الدفاع الجوي الطبيعي"، وهو ما يعني استخدام جغرافية المكان من صخور وجبال وممرات للاحتماء من ضربات العدو الجوية التي تبدأ مع الفجر ولا تنتهي إلا مع آخر ضوء. وكانت الأنباء العبثية تتوالى مع بعض الجنود الذين وصلوا لشرق السويس أثناء انسحاب فرقهم من عمق سيناء، بعد قرار الانسحاب العشوائي الذي اتخذه المشير "عامر" بعدساعات من بداية الحرب. في خيمتهم كان النقيب "عبد الفتاح تركي"، ضابط الاحتياط الشاب، ثلاثيني العمر، وسيم القسمات، لم يتغلب التعب على لمعان عينيه اليقظتين، كانت روحه الشابة الوثابة تظهر في تلك العينين رغم الموقف الصعب، وكان معه النقيب "حسام الخشاب" ومعهما اثنان من رفاق السلاح مستلقين بعد إرهاق يوم شاق، لم يتوقف فيه قصف العدو واصطياد المدرعات والأفراد لحظة، لم تكن جغرافية هذه المساحة المكشوفة تسمح لهم حتى بالدفاع الجوي الطبيعي. لهذا فقد اللواء المدرع الثاني الذي يخدمون ضمن قواته أكثر من نصف مدرعاته، فبقيت فيه 60 دبابة من إجمالي 110، كما فقدت كل القوات المساعدة للواء وعدد كبير من الأفراد. قطع النقيب "عبد الفتاح" الصمت بقوله: - وبعدين؟ هنفضل كدة؟ تلات أيام قصف جوي من غير ما نشتبك مع العدو ولا نشوفه غير في السما؟ - وإيه اللي يخلي العدو يزحف بمدرعاته مادام السما مفتوحة ويقدر يصفي قواتنا منها على مهله؟ شكلنا مش باين له اشتباك. هكذا أجابه النقيب "حسام"، شعر في لهجته بنبرة مرارة محقة تماما، لكنه يعرف أنها مرارة عارضة، فحسام مثله تماما، ابن ثورة يوليو الذي لن يكفر بها مهما بلغت مرارة الموقف. يتذكر "عبدالفتاح" طفولته في قريته "فيشا سليم"، ويذكر جيدا شعور الفلاح المصري بهذه الثورة، يتذكر جلاء الإنجليز عن مصر وهو في الصف الثالث بمدرسة طنطاالثانوية، يتذكر تدريبات التربية العسكرية وهو في الجامعة أثناء العدوان الثلاثي على مصر وحماسه لها. نعم، هذا الموقف العبثي يبث في نفوسهم وهم أبناء يوليو المخلصين مرارة لا يمكن تجاهلها، لكن النفوس الكبيرة لا تنسى أمجاد الماضي وآماله في لحظة انكسار. قال لصديقه ورفيق سلاحه "حسام": -المعركة مخلصتش، ولو خلصت .. ولو اتهزمنا، هنقوم وهنحارب وهننتصر. قال أحد الضباط الذي كان يطفئ سيجارته في الرمال برفق بعد نفسين فقط ليوفرها: -الفريق "صدقي الغول" قال إن فيه طيارات روسية جديدة اتسلمت لمصر من خلال الجسر الجوي وهتتحط عليها العلامات وتطلع بكرة. تحمس النقيب "عبد الفتاح" وقال: -لو اتوفر غطاء جوي… قاطعة دخول جندي المراسلة يطلب الجميع في خيمة قائد اللواء الثاني مدرع من الفرقة الرابعة، اللواء "كمال حسن علي" (رئيس وزراء مصر فيما بعد)، فتحرك الجميع فورا، بكل ما فيهم من حماس يغلب التعب واليأس نحو خيمة القائد، دخل الأربعة ليجدوا بقية ضباط اللواء يقفون حول خريطة وضعت فوق صفين من أجولة الرمل المتراصة. وبينهم وقف اللواء "كمال" الذي دعا الضباط القادمين لينضموا للجميع حول الخريطة. نظر في عيونهم جميعا وهو يقول: -صدرت أوامر من القائد الأعلى مباشرة – الرئيس جمال عبدالناصر – بالتقدم والاشتباك مع العدو قبل أول ضوء غدا تبادل "حسام" و"عبدالفتاح" نظرة وراودت الابتسامة وجهيهما، ثم عادا بسرعة للتركيز بأعينهما مع عصا القائد التي بدأت تتحرك فوق الخريطة وهو يقول: -فيه فرقة مدرعة من قوات العدو تحركت غربا باتجاه ممر متلا، هدف العدو هو الوصول للقناة، ومنها للطور. طبعا الوصول للطور معناه القضاء على القوات المنسحبة اللي بتتجمع هناك علشان تنسحب لغرب القناة. مهمتنا هي وقف مدرعات العدو عند ممر متلا، أو على الأقل تعطيلها، وبأي تمن، لحد ما قواتنا تنسحب لغرب القناة ويتم تدمير معبر الطور بعد ما يتم الانسحاب. -هل هيكون فيه غطاء جوي يا أفندم هنا ظهر على وجه اللواء تقلص بسيط وهو يقول: -المفروض هيكون فيه طيارات روسية جديدة سوخوي7، وميج21 سكت اللواء للحظة قبل أن يستأنف قائلا: -المهمة طبعا مش سهلة، إنتو عارفين الظروف الحالية،واللواء فقد نص طاقة نيرانه، وكمان القوات المساعدة وبطاريات الدفاع الجوي وسرية المساعدة الطبية. يعني متوقع خسائر كبيرة في مواجهتنا لفرقة كاملة من مدرعات العدو، لكن انتو قدها يا وحوش. - تمام يا فندم ترددت العبارة ردا على جملته الحماسية، كان الحماس في صدور الضباط الشباب يتفوق على الشعور بالخطر، بعد 72 ساعة من القصف الجوي المستمر دون اشتباك. استأنف اللواء الخطة وهو يقول: -قواتنا هتتقدم وتقف قبل منطقة الصحن الثالث قبل ممر متلا، وبعدين سرية الاستطلاع هتتقدم لوحدها لاستطلاع قوات العدو وهي خارجة من الممر، نظرا لطبيعة الممر الجغرافية الملتوية لازم استطلاع بشري مباشر، ونظرا لأن معدات الاتصال بقى صعب الاعتماد عليها، هيكون مطلوب من السرية التقدم والعودة للإفادة عن تقدم العدو. سرية الاستطلاع هتكون بقيادة النقيب "عبد الفتاح تركي" ومعاه النقيب "حسام الخشاب" ومعاهم الأفراد و4 عربيات. أي أسئلة؟ بعد استفسارات بسيطة طلب منهم اللواء الانصراف والاستعداد للتحرك قبل أول ضوء. وبدأ الجميع يحصون الساعات الباقية على أول اشتباك بين القوات المصرية وقوات العدو الصهيوني في حرب 1967م (3) المكان: مقر التمركز المؤقت للفرقة الرابعةالمدرعة، شرق السويس الزمان: الساعة الثالثة من صباح الخميس 8يونيو 1967م كان يعرف حجم المخاطر في هذه المهمة المرتقبة، يعرف كيف يقاتل نصف لواء مدرع مصري فرقة مدرعة كاملة من قوات العدو، يعرف معنى تحرك سرية الاستطلاع التي يقودها دون حماية من بطاريات الصواريخ أرض جو خلفها، ودون سرية المدافع 130 مل الثنائية التي تغطي انسحاب السرية بعد الاستطلاع في حالة الهجوم عليها، يعرف معنى تعرضه أو أي من رفاقه للإصابة في غياب السرية الطبية التي تقدم الإسعاف الأولي لحين الوصول لأول مستشفى عسكري. كان يعرف كل هذا، والأهم أنه كان يعرف أنه يقاتل في حرب خسرها الجيش المصري بالفعل منذ اليوم الأول، حرب لن يستقبله الشعب لو عاد منها بأكاليل الغار. كان يعرف كل هذا، ولكنه يعرف كذلك حيوية تلك المهمة للمعركة القادمة، فجوهر المهمة هو حماية القوات التي تنسحب الآن نحو الطور لتعبر القناة للشاطئ الغربي، بتعطيل مدرعات العدو عن الوصول لتلك القوات وإبادتها. لو أبيدت تلك القوات لكانت إعادة البناء أصعب، ولتضاعفت خسائر الجيش في الأرواح وهي العنصر الأهم في أي معركة. كان واثقا مع بداية اليوم الرابع للقتال أن الجيش المصري قد هزم هزيمة مريرة، وأمر ما فيها أنه لم يمكَّن من القتال بسبب ارتعاش بعض قادة المكاتب المكيفة بعيدا في القاهرة. لكنه كان واثقا كذلك من قدرة مصر على إعادة بناء الجيش والوقوف على قدميها من جديد. ومهمته التي ستكون أول اشتباك حقيقي مع العدو لحماية القوات خلفه هي أول الخطوات نحو إعادة البناء المأمول. هل تسلل الخوف إلى قلب النقيب "عبدالفتاح تركي" في تلك الليلة؟ ربما، البطولة ليست ألا تخاف، فالخوف والتعلق بالحياة شعور بشري طبيعي، خاصة لشاب طلق محب للحياة لم يكمل الثلاثين من عمره بعد، لكن البطولة أن تغلب خوفك ولا يغلبك، أن تضحي بنفس وحياة عزيزة على قلبك من أجل الهدف الأكبر من الحياة نفسها. كانت ساعة تفصله عن وقت التحرك عندما التفت نحو فراش النقيب "حسام الخشاب" فوجده بدوره مازال مستيقظا، سأله: -فاضل ساعة ونبتدي نستعد، مش هتنام يا حسام؟ -يا سيدي .. بكرة نشبع نوم. انقبض قلبه لسماع تلك العبارة. لم يتبين تفاصيل وجه حسام في الظلام، لكنه تبين في صوته شجنًا غريبًا. أخذا يزجيان الوقت بالحديث حتى مرت الساعة سريعا، فقاما للاستعداد ليوم طويل. تابع "عبد الفتاح" استعداد جنوده في شدة الميدان الكاملة، وفي تمام الخامسة بدأت سرية الاستطلاع في التحرك نحو ممر متلا في أربعة سيارات، يستقل الأولى "عبد الفتاح" والثانية "حسام"، وبقية جنودهما في سيارتين. وعندما تجاوزت الساعة السابعة صباحا بعشرين دقيقة كانت سرية الاستطلاع تتقدم نحو منطقة الصحن بممر متلا، بينما توقف رتل الدبابات على مسافة كيلومتر واحد خلفها في انتظار ما تعود به السرية من معلومات.