أطنان الملوثات تلقى في النهر يوميا من الوادي للمصب جزيرتا سهيل وألفنتين.. وفندقا إيزيس وموفنبيك ومطاعم عائمة.. ومصانع كيما وكوكاكولا تصرف سمومها في نيل أسوان 18 عاما نضالا قانونيا ضد المخالفين.. والقضية تنتظر حكم "النقض" تمهيد يشتري المقتدرون من أهل العاصمة ومدن الوجه البحري مياههم معبأة، سواءً كانت معدنية أم منقّاة ومكررة، ولا يخاطر أحد منهم بالشرب من مياه الصنابير (الحنفيّات). يلجأ الأقل قدرة إلى تركيب المرشحات (الفلاتر) في منازلهم لتقليل احتمالات إصابتهم بالأمراض المزمنة بسبب المياه الملوّثة، أما الفقراء، فلم تعد كلمة "التلوث" ذات معنى يدل على حجم الجريمة الفادحة التي تُرتكب في حقهم يومياً، ولم يعد يصح أن تسمى الأشياء إلا بأسمائها المعبرة عن فحواها، وقد انتهت رحلة البحث والاستقصاء التي خاضتها "البديل" بطول 1000 كيلومتر إلى ضرورة وصف ما يجري في مياه الشرب والزراعة بطول مجرى النيل بأنه عملية تسميم دؤوبة. بعد ما يقرب من 4 سنوات من اندلاع ثورة شعبية تنادي بالكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، لا يزال الظلم الطبقي منحازا لأهل السلطة والثروة، ليس فقط في مستوى الدخل وفرص التعليم ومنطقة السكن ومواصفاته، بل حتى في أدق التفاصيل اليومية التي قد تودي بحياة الفقراء، وفي الوقت الذي تشتد فيه هيستيريا الإجراءات الأمنية، لدرجة ملاحقة الأطفال في المدارس والطلاب في الجامعة تحت دعاوى الحفاظ على الأمن القومي ومكافحة الإرهاب، فإن أجساد المصريين متروكة بلا أمانٍ من استباحتها بالأوبئة والأمراض الفتّاكة والسموم القاتلة، من دون أن تعتبر الدولة صحة مواطنيها وسلامة أبدانهم ضمن دائرة الأمن القومي واستراتيجيات تأمين المستقبل. تفتح "البديل" ملف تسميم شريان الحياة الرئيسي في مصر، بادئةً سلسلة تحقيقاتها مع بداية مجراه، في محاولة لاستكشاف مصر من أعاليها في أقصى الجنوب، حتى مصب النيل في دمياط ورشيد. في هذه السلسلة، نتتبع مسار قطرة مياه نقيّة عبرت من من فوق بلاد النوبة الغارقة خلال توربينات السد العالي، ثم تدفقت بين جزيرتي "هيسا" ومعبد "فيلة"، حتى تسللت عبر خزان أسوان في طريقها إلى الدلتا في أقصى الشمال. لم تبق قطرة المياه على نقاوتها وصفائها بمجرد عبورها السد العالي، فالجزر النوبية القليلة بين السد والخزان مضطرة لتصريف مخلفاتها في مياهٍ تظل شبه راكدة عدة شهور من السنة، أما شماليّ خزان أسوان، فإن التلوث يُستكمل بصرف جزر "سهيل" و"ألفنتين" (جزيرة أسوان) وفندقيْ "إيزيس" و"موفنبيك" الفاخريْن، والمطاعم العائمة السياحية و"الدهبيّات" الشراعية. إذا ركبت قاربا أو زورقا في النيل، فليس أمامك سوى 5 كيلومترات من بعد خزان أسوان يمكن لأهل الخبرة أن يدلّوك على أماكن معينة في زمامها لتشرب منها هنيئا مريئا مبتعدا عن مواطن التلوث والركود، أما بقية مجرى النيل الممتد لأكثر من 1200 كيلومتر هادرا من الجنوب إلى الشمال، فلن تخاطر بحياتك محاولا الشرب منه بعد أن ترى مئات الأطنان من السموم تلقى فيه يوميا في كل محافظة وكل مدينة صناعية بطول الوادي حتى المصب. الحلقة الأولى: التلوث يبدأ من أسوان.. والقضايا أيضا لست مضطرا لمشاهدة الكارثة بعينك، فمجرد مرورك من طريق كورنيش أسوان في اتجاه الجامع الكبير أو موقف الأقاليم سيجبرك على شم أسوأ رائحة قد تكون تخيلتها أو وصفت لك في حياتك. جرعة مكثفة من روائح كريهة تنم عن قدر هائل من السموم المركزة لا تلبث أن تسمع صوت خريرها بأذنك إذا اقتربت من مصنع "كوكاكولا"، أو نادي شركة "كيما"، المطل على ضفة النيل الشرقية، فإذا تحاملت على نفسك، وسددت أنفك، وتجاسرت على الاقتراب من حافة سور الكورنيش لتلقي نظرة، فستقع عينك على واحدٍ من أسوأ كوابيس اليقظة، التي ستودّ أن تفيق منها فورا فتجدها خيالا، لكنك للأسف ستفاجأ بالواقع الأليم متجسدا في مئات الأطنان من السموم تصرف يوميا في مياه النيل مباشرة، ترفع رأسك من النظر إلى الوحل لتجد أمام عينيك لافتة ترحيب من شركة "كيما"، تدعوك فيها للحفاظ على نهر النيل من التلوث، وتتبرأ من أية صلة بينها وبين الصرف الصناعي والصحي الملقى في النيل عبر مصرف السيل المسمّى ترعة كيما. 5 أيام كاملة قضتْها "البديل" في البحث الميداني والتوثيق وإجراء المقابلات في مدينة أسوان وقرية "أبو الريش"، من أجل استقصاء جوانب الكارثة البيئية والصحية، التي تبدأ في أسوان ثم تُستكمل في كوم امبو وإدفو وإسنا ونجع حمادي، وغيرها من مدن ومناطق صناعية على ضفتي النيل، حتى كفر الزيات وما بعدها في الدلتا، وعلى الرغم من اكتشاف جوانب مهمة مجهولة في مسيرة النضال الشعبي والحقوقي ضد تسميم النيل في أسوان، خاضَهُ بالأساس أهالي قرية أبو الريش، أول قرية تقع بعد مصرف السيل وتأخذ مياه شربها وزراعتها بعده بمسافة 2 كيلومتر تقريبا، إلا أننا وجدنا المسؤول الأول عن استمرار هذه الكارثة هو نظام التقاضي ومحاكم أسوان، وهو ما نخصص له هذه الحلقة. فتح لنا فرع مركز هشام مبارك لحقوق الإنسان، أبواب فرعه في أسوان، وبدأ مديره، المحامي مصطفى الحسن، في سرد مسيرة النضال القانوني الذي خاضه برفقة زملائه في المركز وجيرانه في أبو الريش منذ عام 1996. لم يكن في الحسبان أن تكون القضية بمثل هذا العمر الذي يوازي عمر شاب استخرج بطاقة الرقم القومي منذ عامين، وصار له صوت انتخابي منذ عدة شهور. حصلنا على نسخة كاملة من الدعاوى والأحكام القضائية المتعلقة بالقضية، وقضينا ساعات طوال في دراستها، وإذا بالمضحكات المبكيات تكمن في أغلب أوراق القضية. بدأت القضية رسميا يوم 24 يوليو 1996 بدعوى إثبات حالة (رقم 94 لسنة 1996) أقامها مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان (هشام مبارك لاحقا) أمام دائرة الأمور المستعجلة في محكمة أسوان الابتدائية، مختصمين فيها كلا من: محافظ أسوان، ورئيس الوحدة المحلية، ووزير الصحة، ووزير الأشغال العامة والموارد المائية، ورئيس شركة الصناعات الكيماوية المصرية "كيما أسوان". وقد صدر الحكم بتشكيل لجنة ثلاثية من الخبراء الهندسيين بمحكمة أسوان ووزارة الصحة ووزارة الري لإثبات حالة ترعة كيما، ومدى مطابقة المخلفات التي تلقى بها للمعايير الصادر بها قرار من وزير الري. صدر الحكم التمهيدي في الدعوى "المستعجلة" يوم 26 نوفمير 1996، أي بعد 4 شهور تقريبا من بدء تحريكها، مستندًا إلى تقرير الخبير الهندسي الذي رأسَ لجنة المعاينة، شمل التقرير الواقع في خمس صفحات تفاصيل إلقاء الملوثات والسموم في مخرّ السيل، الذي تم إنشاؤه في الخمسينيات من القرن الماضي بهدف حماية أسوان من مخاطر السيول بتصريف مياه الأمطار مباشرة في مجرى النيل. رصدت معاينة اللجنة القضائية عدة مواسير بأقطار كبيرة عند كل من الكيلو 6.5 والكيلو 5.6 والكيلو 3.1، تصرف مياه الصرف الصحي من شبكات صرف ومحطات معالجة المياه، وينبعث منها الروائح النتنة، وكذلك ماسورة صرف مصنع كيما عند الكيلو 4.4 التي تبث منها رائحة النشادر الفظيعة كمؤشر على سموم النيترات القاتلة، وكذلك ماسورة صرف مطحن ناصر عند الكيلو 1.3، وماسورة صرف مصنع "كوكاكولا" على بعد 150 متر من المصب. في النهاية، أثبت التقرير أن كل الصرف الصحي والزراعي والصناعي المذكور أعلاه، بما يحمله من مخلفات صلبة وقاذورات وجثث حيوانات وحشرات وقوارض وهوام، ينتهي به الحال مصبوبا في مياه النيل مباشرة، المصدر الرئيسي للشرب والري للغالبية العظمى من شعب مصر، ولكل سكان أسوان. جانب من تقرير الخبير القضائي سنة 1996 دُعّم التقرير بالصور الفوتوغرافية، والتقارير الصحفية، وأثبت أن مأخذ مياه الشرب لقرية أبو الريش يقع بعد 2 كيلومتر، وانتهى التقرير باعتبار المدّعى عليهم مسؤولين مسؤولية كاملة عن تلويث النيل بهذا الكم الهائل من السموم، مشيرا إلى انتشار أمراض الفشل الكلوي والالتهاب الكبدي والحميات بأنواعها، ورابطا بين الأمرين ربطا لا لبس فيه، وفي هذه الأثناء، صدر تقرير من مديرية الصحة بأسوان أن محطة تنقية مياه الصرف تصب مياهها في النيل عبر مصرف السيل مباشرة من دون أية معالجة أو تنقية، كما أثبتت العينات المأخوذة من مصرف السيل ومن منطقة بعد مصب المصرف في النيل، واعتبر تقرير مديرية الصحة ذلك مخالفة للقانون 48 لسنة 1982 الخاص بحماية نهر النيل من التلوث، وطالب باتخاذ الإجراءات القانونية ضد محطة تنقية مياه الصرف الصحي. بعد سنة ونصف، وبتاريخ 20 يناير 1998، صدر الحكم من دائرة "الأمور المستعجلة" بمحكمة أسوان الابتدائية بإنهاء الدعوى وألزمت شركة كيما بتحمل المصروفات وأتعاب المحاماة، وهو ما يعني إدانتها وتحميلها المسؤولية القانونية. لجأت شركة كيما إلى الطعن في الحكم بدعوى حملت رقم 40 لسنة 1998، تطالب فيها بإلغاء الحكم السابق بدفوع مختلفة، منها انتفاء صفة المدّعين في دعوى إثبات الحالة، أي أنهم ليسوا مؤهلين قانونيا لاختصام الشركة، وقد صدر الحكم لصالح المحامين الحقوقيين بتاريخ 31 مايو 1998، وتم تأييد الحكم ضد شركة كيما. حكم المحكمة الملزم بسد منافذ الصرف ماطلت الجهات الحكومية المحكوم عليها واستهلكت عام 1999 في دعاوى قضائية حكم فيها بعدم الاختصاص، كما استغل مصنع كيما هذه الفترة في استصدار ترخيص بإنشاء ماسورة صرف مطابقة للمواصفات -صوريا وورقيا– وهي الماسورة التي كانت تصرف بالفعل منذ إنشاء المصنع عام 1960، كما أجرى بعض التحاليل لعينات من المصرف كانت نتيجتها في صالح الشركة، لكن المحامين الحقوقيين في مركز هشام مبارك عادوا لينتزعوا انتصارا قضائيا جديدا بحصولهم على حكم من محكمة أسوان الجزئية بتاريخ 29 يونيو 2000 في الدعوى رقم 9 لسنة 2000، وقد نص منطوق الحكم على إلزام كل من مصنع كيما، ومطحن ناصر، ومصنع كوكاكولا، بسد كافة مصادر التلوث على طول مصرف السيل ابتداءً من الشلال وحتى المصب في نهر النيل، وكذلك تم توقيع غرامة تهديدية قدرها ألف جنيه على كل منهم عن كل يوم تأخير، مع إلزام وزير الأشغال والطاقة والموارد المائية بالتنفيذ. يبدو الحكم الأخير صارما ومبشّرا، ما يدفع بالخيال لتصوّر أن القضية انتهت بسد منافذ التسميم، أو على الأقل بدفع المصانع الثلاثة ما يزيد عن 15 مليون جنيه منذ إصدار الحكم حتى الآن، لعلها تكون ميزانية لتعويض القرى المتضررة من سمومهم. لكن أبسط حقوق المصريين لم يعد في مقدور الخيال، فتبددت هذه الآمال بسبب استئناف المصانع المذكورة الحكم القضائي، ما علّق الأمر بلا حل حتى هذه اللحظة. إذا كنت ممن شعروا بالمرارة والقهر بسبب الحكم ببراءة المخلوع مبارك في قضية قتل المتظاهرين، فأنت مدعو لتتجرع المرار الصافي باطلاعك على مقتطفات من صحيفة استئناف الحكم التي تقدم بها المحامي فنجري محمد تايه، وكيلا عن شركة كيما، وكيف أن محكمة الاستئناف في أسوان قد قبلت صحيفته، ثم حكمت لصالح المصانع الثلاثة، وفقا لهذه الصحيفة والمرافعات التي صاحبتها.. تقول صحيفة الاستئناف إن صاحب الحق في إقامة الدعاوى المتعلقة بحماية نهر النيل هو وزارة الري والأجهزة الإدارية المعاونة لها بوزارتي الصحة والداخلية، باعتبار أنها دعاوى متعلقة بالنظام العام، وتضيف: "لا يتسنّى للمدعين –سواءً بأشخاصهم أو بصفتهم محامين أو ممثلين لما يسمى مركز المساعدات القانونية لحقوق الإنسان– أن يحلوا محل الدولة أو النيابة العامة في إقامة مثل هذه الدعاوى مباشرة أو أن ينفردوا بها، حتى لو كانوا يتجرعون من مياه النهر كما ذهب ذلك الحكم"، ويقصد بذلك حكم محكمة أسوان الجزئية. يستمر العبث في صحيفة دعوى الاستئناف المودعة بقلم الكتاب برقم 209 لسنة 2000، والتي قدمها محامي شركة كيما بتاريخ 31 يوليو 2000، وقد بيّن أن من أسباب طلب الاستئناف سقوط الحق في رفع الدعوى بالتقادم، أما الحجة التي يقدمها فهي أن مصنع كيما يصرف مخلفاته في مصرف السيل منذ إنشائه سنة 1960، أي قبل أربعين عاما من رفع دعوى الاستئناف، ومن ثم يكون العلم بوقوع الضرر على المدّعين وبالمسؤول عنه متوفرا منذ مدة زمنية طويلة، فصحيفة الاستئناف تطلب رفض حكم الدعوى المدنية رقم 9 لسنة 2000 لأن الضرر يقع على المدّعين منذ أربعين سنة، وكأنه وقع مرة واحدة وانقطع منذ ذلك التاريخ. تقدم كل من مطحن ناصر، ومصنع كوكاكولا، بصحيفتي استئناف مماثلتين تم إيداعهما بأرقام 211 و218 لسنة 2000، على الترتيب، ولا عجب أن يماري بعض المحامين بالباطل وبما يستطيعونه من مناورات، لكن المصيبة الحقيقية هي قبول القضاء لهذه الأباطيل والحكم بمقتضاها، فقد حكمت محكمة استئناف أسوان بتاريخ 27 يناير 2002، في القضية رقم 160 لسنة 2001، بإلغاء الحكم القضية رقم 9 لسنة 2000 الملزم للمصانع الثلاثة وللجهة الإدارية بسد منافذ الصرف الصناعي الذي يصب في النيل، وذلك لأن القضية مرفوعة من غير ذي صفة بحسب منطوق حكم الاستئناف. لم يستسلم محامو مركز هشام مبارك الحقوقيون، وطعنوا في حكم الاستئناف لنقضه بالطعن رقم 2 لسنة 2002 مختصمين كلا من محافظ أسوان، ورئيس الوحدة المحلية لمدينة ومركز أسوان، ووزير الأشغال العامة والموارد المائية، ورئيس الهيئة العامة لمرفق مياه الشرب والصرف الصحي بأسوان، ورؤساء مجالس إدارات الشركات المالكة للمصانع الثلاثة، وقد تركّز موضوع النقض على طلبين أساسيّيْن؛ وهما وقف تنفيذ حكم محكمة الاستئناف لحين الفصل في موضوع الطعن، بما يعني إلزام المصانع الثلاثة بوقف صرفهم الصناعي في مصرف السيل الذي يصب نهايةً في النيل، وكذلك بنقض الحكم الذي يخالف حكم القضية رقم 40 لسنة 1998، الذي رفض دعوى المصانع بانتفاء الصفة والمصلحة لدى المحامين التي تؤهلهم لاختصامهم. نص منطوق حكم استئناف أسوان سنة 2002 بدأت القضية في دائرة الأمور المستعجلة عام 1996، وانتهى بها الحال معلقة في غياهب محكمة النقض بعد أكثر من 12 سنة من تقديم الطعن الأخير عام 2002. لم يتوقف الصرف الصناعي ولا الزراعي ولا الصحي (البشري)، عن صب سمومه في النيل، ولم تتوقف آلام أهل "أبو الريش" على مدار هذه السنوات الطوال، وهو ما سنتعرف على جانب منه في الحلقة المقبلة ..