مآسي إنسانية وملاحم للنضال الشعبي أنشيء "مصرف السيل" في أسوان في الخمسينيات من القرن الماضي بهدف حماية المدينة والقرى المحيطة بها من مخاطر السيول العنيفة التي تضربها كل بضع سنوات في فصل الشتاء. تم تمهيد مسار المخرّ بحيث تنساب فيه مياه الأمطار من منطقة الشلال في الجنوب الشرقي للمدينة، وتجري بطول 8 كيلومترات حتى تصب في النيل قريباً من مدخل أسوان الشمالي، وبذلك ينجو الناس من مخاطر السيول، ويتم تصريف مياه الأمطار النقية إلى شريان الحياة الرئيسي في مصر. لكن المخر الذي أريد له أن يكون حماية لأهل أسوان قد تحول إلى أكبر مصدر لتسميم مياه النيل بعد إنشاء مصنع "كيما" سنة 1960. يُنتج مصنع "كيما" عدداً من المنتجات الكيماوية شديدة السُمّيّة، وقد ظل يصرف مخلفاته الخطيرة في مخرّ السيل، الذي تحول اسمه الشائع محلياً إلى "ترعة كيما"، ومنه إلى مجرى النيل مباشرة. استمرت سموم مصنع كيما في تدمير صحة الآلاف من أبناء قرية أبو الريش، التي تأخذ مياه الشرب والزراعة بعد مسافة 2 كيلومتر من مصب مصرف السيل (ترعة كيما)، وأضيف إليها مخلفات مطحن ناصر ومصنع كوكاكولا، وتصريف المخلفات البشرية والزراعية مباشرةً من المواطنين أو بعد تجميعها في محطات الصرف بدون معالجة، وكذلك صرف ثلاثة مستشفيات كبيرة ومعسكر الأمن المركزي في أسوان، كل ذلك صار يُصرف في النيل مباشرة بكميات هائلة يومياً. عرضت "البديل" في الحلقة الأولى من هذا التحقيق تاريخ النضال الحقوقي والقضائي الذي خاضه فرع مركز هشام مبارك للقانون مع أهالي "أبو الريش" منذ عام 1996. بدأ نضالهم بدعوى أمام القضاء المستعجل في يوليو 1996، ثم انتهى الأمر بالقضية إلى غياهب محكمة النقض منذ سنة 2002 حتى الآن من دون أن يتوقف الصرف اليومي الذي يتجاوز مائة ألف متر مكعب يومياً (100 ألف م3 / يوم) طيلة كل هذه الفترة. أتت ثورة يناير بانفراجة في المجال العام وتعزيز لثقة الناس في قدرتهم على تغيير الفساد. فبعد شهور من اندلاع الثورة في مطلع 2011، بدأ أهالي أبو الريش يسطرون ملحمة من النضال الشعبي، لم تنته فصولها حتى الآن، وذلك من أجل الدفاع عن حقهم في مياه نظيفة وصالحة للاستهلاك الآدمي، وحقهم في الصحة السليمة. لماذا تبرع مصطفى بكبده لأمه؟ ومن ينقذ كُلْيتها؟ بدأت فصول الملحمة بمعاناة من نوع خاص، كان بطلها شاب في أواخر العشرينيات من أهالي أبو الريش اسمه مصطفى حمدي. مرضت أم مصطفى بتليف كبدي عجز عن التعامل معه أطباء مستشفى الحميات في أسوان لضعف الإمكانيات الطبية في المحافظة، فارتحلوا إلى مستشفى جامعة عين شمس التخصصي في شرق القاهرة. أبرزت التقارير الطبية الأولى، في مطلع الألفية، أن سبب مرض أم مصطفى هو ارتفاع نسبة الأمونيا، وهو ما يعني المسؤولية المباشرة لمصنع "كيما" المنفرد في هذه المنطقة بتصريف مخلفات صناعة الأسمدة وما تحويها من نشادر في مياه النيل عن طريق مصرف السيل، وهي حالة متكررة شائعة في أبو الريش حيث يتفشّى الفشل الكبدي والكلوي بشكل لافت ولا تخلو أسرة من أحد المصابين بهما. لم تهتم أسرة مصطفى بالشكوى الرسمية أو مقاضاة الشركة، حتى إن التقرير الرسمي الصادر من مستشفى جامعة عين شمس قد ضاع منهم بعد تجاوزهم مرحلة التشخيص وتقدم الحالة المرضية لوالدته. تدهورت حالتها حتى أصيبت بالاستسقاء في البطن في 2010، ثم انتهى بها الحال إلى تليف كبدي كامل استلزم إقامتها الدائمة في المستشفى تحت الرعاية الطبية، ولم يكن لها من علاج ينقذ حياتها سوى زرع كبد جديد. بادر مصطفى بعرض كبده لأمه بديلاً عن شقيقه الأكبر المتزوج ذي الأولاد، فأظهرت الفحوص تطابق أنسجة الكبد لدى كل منهما. في مارس 2011، أجريت عملية الزرع للأم بفص كبدي منتزع من ابنها، حيث استغرقت أكثر من 15 ساعة متواصلة. نجحت العملية، وخرج مصطفى من العناية المركزة بعد أسبوع، ثم خرجت أمه بعد شهرين، لكن المأساة لم تتوقف… تتناول أم مصطفى علاجاً دائماً لكبدها الجديد يؤثر كيميائياً على الكُلى. صار لزاماً عليهم الاستغناء تماماً عن شرب مياه النيل الملوثة وشراء مياه معدنية لها وحدها، من دون بقية أفراد الأسرة، وهو اختيار شاق على سائر أهالي نجوع وقرية أبو الريش ومخالف لثقافتهم المحلية. لكن اختيار المياه المعدنية الاستثنائي لم ينقذها من مخاطر الفشل الكلوي، حتى اقتربت جداً من احتياجها لعملية زرع كُلْية! كانت أم مصطفى – على الرغم من مأساتها – محظوظة بابنها البار وبعمل زوجها في شركة الكهرباء التي أقرضته قيمة العملية قرضاً ميسّراً. كان من الممكن أن يكون مسار القصة مختلفاً تماماً إذا عجزت أسرة مصطفى عن توفير مبلغ 483 ألف جنيه نظير إجراء عملية زرع الكبد والفحوصات قبلها والمتابعة بعدها. عاد مصطفى إلى أسوان بعد تجربته وتجربة أسرته العصيبة وأراد لأهل بلده ألا يعانوا مثلما عانى هو، فبدأ حملته للتوعية والتعبئة ضد مصنع "كيما"، فاستجاب له القادة والنشطاء المحليون في قرى أبو الريش (قبلي وبحري) وطوّروا الأفكار المتحمسة التي ذهبت اقتراح إلى ردم المصرف بالجهود الذاتية إلى فاعليات أخرى ذات طابع سلمي لا يصطدمون فيها مع سائر مكونات المجتمع الأسواني. بدأت الحملة من نجوع قرى أبو الريش حتى وصلت إلى فرض حقوقهم على أجندة اجتماعات رئاسة مجلس الوزراء، وذلك بعد أن رفض مصطفى مساومات محافظ أسوان الأسبق، اللواء مصطفى السيد، لاحتواء أول وقفة احتجاجية بعرض تعويض أسرته عن تكاليف العملية. كيف قاوم أهالي أبو الريش؟ وكيف نظموا صفوفهم؟ خرجت القضية عن نطاق الأزمات الفردية لأسرة مصطفى حمدي وبعض الضحايا والمتضررين الذين فقدوا حياتهم أو تدهورت صحتهم لما بقي من أعمارهم، وبدأ أهالي أبو الريش في تنظيم صفوفهم للمطالبة بحقوقهم. دارت الاجتماعات التحضيرية في الجمعيات الأهلية الممثلة للنجوع المختلفة التابعة لقرية أبو الريش، واحتضن مركز هشام مبارك للقانون اجتماعات لجنة المتابعة الشعبية التي تم تشكيلها بالاتفاق الرسمي مع محافظ أسوان للرقابة على تنفيذ "مشروع الحل العاجل". حصلت "البديل" على نسخة من محاضر اجتماعات ممثلي الأهالي في عدد من الجمعيات المحلية في سبتمبر 2011، حيث تم توثيق آليات تنظيم حركتهم الميدانية والقانونية وكيفية توزيع أدوارهم. نظم الأهالي صفوفهم بشكل أفقي، من دون أن يبرز قائد أو أن يتركوا المجال لاستغلال الطامعين في توظيف الحراك لأغراض حزبية أو تصويتية في الانتخابات، فوزّعوا أدوارهم بحيث يختص محامو أبو الريش من العاملين في مركز هشام مبارك بكتابة العرائض القانونية والمراسلات الإدارية، كما كلفوا بعضهم بمتابعة الحشد للاحتجاج عبر أئمة المساجد، وآخرين لتأجير عربة بميكروفون لدعوة سكان نجوع أبو الريش للمشاركة في الوقفة الاحتجاجية الأولى يوم 7 سبتمبر 2011 بحديقة "درة النيل" أمام مبنى المحافظة. جمعوا تمويل الوقفة البالغ قيمته (255 جنيه) من جيوبهم لطباعة اللافتات وتأجير العربة، وكلفوا ممثلاً عنهم للتواصل مع أهالي منطقتيْ الناصرية والحكروب لتعبئتهم للمشاركة في الوقفة، كما اضطلع مصطفى حمدي بدور الحشد الإلكتروني. شهدت أسوان في تلك الفترة حراكاً ميدانياً غير مسبوق في كل من الأوساط النوبية والقبائل العربية، وهو ما طرح عليهم مناقشة تأجيل وقفتهم أمام المحافظة لوجود اعتصام للنوبيين، لكنهم عدلوا عن ذلك بالتضامن مع حقوق النوبيين واستمرار التخطيط لوقفتهم في الموعد ذاته والمكان نفسه. اتفق ممثلو الأهالي على ذلك في اجتماعهم التحضيري الثاني المنعقد في جميعة التنمية بنجع الشيخ علي يوم 4 سبتمبر 2011، كما اتفقوا على تشكيل لجنة نظام للوقفة بعضوية فرد من كل نجع، واختاروا ثمانية أسماء من الرجال والنساء متنوعين جغرافياً لتمثيل أهالي أبو الريش جميعاً في لقاء المسؤولين. أصابت توقعاتهم، وطلب المحافظ مقابلة من يمثلهم فذهب ممثلوهم المختارون ومعهم مصطفى حمدي للقائه في مستشفى مجدي يعقوب، حيث اختار المكان لأسباب أمنية. أراد المحافظ التملّص من مسؤولياته فأتى بممثلين للهيئات الحكومية لنفي وجود مشكلة وادّعاء سلامة نتائج فحص العينات ومطابقتها للمواصفات وفقاً لبيانات معامل وزارة الصحة وغيرها من معامل حكومية. ردّ عليه ممثلو الأهالي من الحقوقيين والشعبيين بتقرير الخبير القضائي والأحكام القضائية التي ألزمت المسؤولين بسد مصادر التلوث، وكذلك بإثبات أن حالة أم مصطفى كانت بسبب الأمونيا الصادرة عن مصنع كيما بحسب التقارير الطبية لمستشفى جامعة عين شمس. بدأ الحراك الشعبي يؤتي ثماره، فتم تشكيل لجنة شعبية من سبعة أفراد كلهم من أهالي أبو الريش، بعضهم ذو خبرة فنية وآخرون ذوو خبرات قانونية ومالية، والباقون يمثّلون الامتدادات الجغرافية لنجوع أبو الريش المختلفة. واستمرت هذه اللجنة في الانعقاد في مركز هشام مبارك الذي يدير فرعه في أسوان محامون حقوقيون بعضهم من أبو الريش، ولا تزال تنعقد وتتابع تنفيذ مشروع الحل العاجل وتحارب الفساد الذي أفشله وعطّل نتائجه المرجوة، على الرغم من إنفاق عشرات الملايين عليه. مشروع الحل "الفاشل" .. العاجل لم تنجح محاولات المحافظ لنفي وجود المشكلة بالورق "المضروب" الذي قدمته القيادات التنفيذية في المحافظة، واضطر للاتصال بوزير البيئة تحت وطأة الضغط الشعبي وكان نتيجة ذلك تخصيص 80 مليون جنيه لمشروع "الحل العاجل"، مع وعد بانتهاء الصرف الملوّث المسمم لمياه النيل في شهر يناير 2012. تتلخص فكرة مشروع الحل العاجل في سد جميع منافذ الصرف في مخر السيل وربطها بشكبة الصرف التابعة لهيئة الصرف الصحي الحكومية، ثم تحويل مياه الصرف المعالجة في المحطات المجهزة لذلك ورفعها إلى منطقة هضبة العلاقي شرقي أسوان، حيث يتم الاستفادة منها – بعد معالجتها – في استزراع غابة شجرية ونباتات ذات قيمة استثمارية عالية ولا تدخل في المكونات الغذائية. على الورق، يفترض أن يتم إنشاء عدد من الأحواض الرملية للتبخير بنسبة 20%، وأن يعتمد الحل العاجل مؤقتاً على تسريب المياه في التربة بنسبة 80% لحين استزراع أراضي الغابة الشجرية. لكن فعلياً لم يتم أي من ذلك بسبب التأخر في استيراد طلمبات الرفع من الخارج، وتوقف المحطة (56) عن معالجة مياه الصرف ورفعها بكل المخلفات الصلبة فيها إلى منطقة الأحواض. فترتب على ذلك وقف التسريب في التربة وتراكم المياه المرفوعة يومياً حتى تشققت الأحواض وانكسرت الحواجز بينها، فتحولت إلى بحيرة ضخمة عميقة من مياه الصرف الصناعي ومبطنة بالمخلفات الصلبة. تسمّى محطات الصرف في أسوان بسعتها اليومية مقدرة بالألف متر مكعب من مياه الصرف الملوثة. لذلك فإن تسمية المحطة (56)، التي هي محصلة محطتين فرعيتين (21) و(35)، تعني أنها تضخ يومياً 56 ألف م3، بالإضافة إلى محطة (40)، وصرف معسكر الأمن المركزي المقدر ب 7 آلاف م3، وصرف الأهالي من البيوت مباشرة، وهو ما يتجاوز مجموعه حجم 100 ألف م3 يومياً من السموم والملوّثات لا يزال أغلبها يصب في النيل مباشرة. حتى كتابة هذه السطور، أُنفق على مشروع "الحل البائس"، بحسب تعبير المحامي مصطفى الحسن مدير مركز هشام مبارك، أكثر من 150 مليون جنيه على مدار 3 سنوات من دون أي تغيير يذكر. وأثناء إعداد الحلقة الأولى من التحقيق للنشر اتصل بنا أعضاء لجنة المتابعة الشعبية ليبلغونا بأنهم اكتشفوا كارثة جديدة أخطر من مصرف السيل المسمى "ترعة كيما". فالمياه المتراكمة في البحيرة الضخمة الناتجة عن عدم تسريب مياه الصرف في التربة (لرفعها بدون معالجة) قد زاد منسوبها حتى وصل إلى ستة أمتار (6 م طولياً) ثم بدأت تفيض وتسيل من منطقة العلاقي في اتجاه جنوبأسوان حتى تصب في منطقة "الحبس"، وهي منطقة المخزون الاستراتيجي لمياه الشرب والزراعة بين السد العالي وخزان أسوان حيث تروي كل أهل وادي النيل في مصر، وهي مياه أقرب للركود منها للتدفق. وبذلك تتعرض حياة بقية أهل أسوان والجزر النوبية إلى المخاطر الصحية مع تضاعف احتمالات تركيز التلوث والتسميم في مياه النيل بطول الوادي. في الحلقة الأخيرة من التحقيق تذهب "البديل" لتتبع مستجدات الكارثة الجارية، وتكشف عن تفاصيل مشروع "الحل الفاسد"…