في بلادي إذا رحل الحاكم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية (الجنزوري وفايزة أبو النجا)، أو سجن ينتفع به، أو وريث يعيث في الأرض فسادًا بما يحلوا له، فإذا حاولت تغيير نواميس الوطن "الظالم مسؤولوه" وقررت أن تستخدم حقوقك السياسية فسيعتبرونك فورا إرهابيا يستغل الديمقراطية للوصول للحكم.. ولكنهم تفضلا منهم ومنا سيفاوضونك إن نجحت في مهمتك المستحيلة لتقاسمهم السلطة فإذا رضيت فإن أموالك ودماءك عليهم حرام كحرمة الشهر الحرام وإن أبيت فأموالك غنيمة ودماؤك رخيصة. فإذا اعتزلت الفتنة وجلست في بيتك وأغلقت عليك بابك، فأنت سلبي لا تحب حضن الوطن.. ربما لأنهم لم يفهموا بعد أنك لا ترى الوطن إلاَّ "كالكفن" إن نجوت منه في مظاهرات الغضب سيغرقك في عبَّارات الغرق أو في قطارات إن نجت من المزلقان فإنها تحترق أو تدهسك عجلات سياراته على منافذ الموت السريع المسماة "بالطرق" أو يخنقك في ستادات اللعب ومسارح الفن والطرب. فإن قررت أن تكون مواطنا إيجابيا واشتكيت من الفساد الجاثم على الصدور والإهمال الناشئ من الظلم والفجور فسيتحفونك بحلول تجعل أقصى أمانيك أن تفر من هذه البلدة ولو فارقت إلى الأبد أمك وأبيك وزوجك وبنيك.. فبأي منطق من الممكن أن تتناقش مثلا مع ممثلي حقوق الإنسان في مصر والذين أعلنوا بكل نطاعة أن ما أنجزته مصر في مجال حقوق الإنسان فاق التصورات!! في تلك السنوات التي لم يخل فيه بيت من شهيد أو مصاب أو مطارد أو مسجون أو خائف ينتظر مصيرا مظلما لم يأته بعد.. أم كيف تتفاهم مع مسؤول يرى أن إصلاح الطرق سيؤدي لوقوع الحوادث! وآخر يعتبر أن الحل الأمثل لإلغاء شغب الجماهير هو إقامة المباريات بدون جماهير.. ورئيس يدعو الشباب بكل حماس للمشاركة في تنمية بلدهم! إلا لو كان بناء المعتقلات ونهضتها من أولويات الوطن، وأن تواجد الشباب في هذه الصروح العظيمة لتعميرها ضرورة وطنية باعتبار أن السجن هو مصنع الرجال وعرين الأبطال! يفعلون هذا وأكثر حتى يعلم كل متذمر لا يقدر نعمة الأرض – أن مصر ليس وطنا نعيش فيه ولكن وطن " يعيشون هم فيه، ونموت نحن فيه من الإهمال والظلم والفساد ".. ومهما سمعت من نداءات تدعو الشباب للمشاركة من أجل مصر فلن يسمح لك فيه حتى بالتطوع لخدمة بلدك – إلا لو كان جهدك سيصب في خزائنهم التي لا تنضب أبدا ولتثبيت كراسيهم التي يظنون أنهم سيظلوا عليها عاكفين ما بقي الليل والنهار. أعلم جيدا أن البلد في حرب مقدسة على الإرهاب المحتمل.. وفي سبيلها يجب أن تتحسن صورة الوطن بأي وسيلة كانت، ولكن صدقني لم تعد الحقيقة تخفى على أحد أبدا في عصر السماوات المفتوحة، لذلك لا بد من تغيير هذه الأساليب التي أكل عليها الزمان وشرب.. فلن تتحسن صورة مصر المتصدرة الأولى عالميا في حوادث الطرق والإصابة بفيروس سي، والتي تنافس كذلك أواخر الدول بقوة في جودة التعليم والصحة والفساد ومستوى الدخل، ولن يتغير انطباع العالم عنا ومن ثم يفدون إلينا بمجرد شعارات رنانة من أنها أم الدنيا صاحبة النيل العذب الزلال السائغ شرابه، وقاهرة فيروس سي باختراعها السحري.. ولكن الحقيقة – وفقط – هي من ستجعل السياح يأتون إلينا من كل فج عميق.. ولكن نعرف فقط من أين تُأكل الكتف.. فلنبتعد قليلا عن الترويج لمصر باعتبارها بلد الأمن والأمان – عشان ماعدتش بتاكل مع سياح اليومين دول – ولنركز على السياحة الدينية بعض الشيء.. فلننشر بكل فخر مأساة القطاع الطبي والمرضى في مصر مذيلين الدعوة بعظم ثواب زيارة المريض، ولا نخجل أبدا من سرد أعداد الوفيات اليومية مذكرين أبناء العالم الإسلامي بجزيل أجر مشيعي الجنازات وزائري القبور.. وتأكيدا على الأخوة الإسلامية وحق الجوار العربي نرفع للعالم الإسلامي إحصائية بمعدلات الفقر في مصر محذرين إياهم من مغبة عقاب من ينام شبعان وجاره جوعان.. للأسف هذا هو واقعنا، فقبل أن يتساقط لحم وجهك خجلا من حال مصرنا أو لعنًا لمن يكتب هذه الكلمات ويكأنه يسخر من بلدنا ويقلل من مكانتها.. تذكر أننا رغم ما حبانا الله من خيرات طبيعية وموارد بشرية فإن حكوماتنا هي من ارتضت أن تعيش على المعونات جيلا بعد جيل وتتسول المساعدات بكل فخر ومن دون أن يطرف لها جفن أو يحمر لها وجه.. ومن غير حتى أن تُشبِع – من تلك الهبات المذلة – للفقير بطنا أو تزيد المسكين دخلا.