يوجد – دائما- ثمة نذيرٌ ينبه إلى أنَّ الفجوة بين العقل والسلطة إذا اتسعت كانت العواقبُ وخيمةً، ونحن هنا نسلم ابتداءً أنَّ هناك بونٌ شاسعٌ بين السلطة التي تنطلق من كونها حقًا يستلزم آمرًا ومأمورًا وأمرًا يستوجب الطاعة والانقياد، وفق عقدٍ اجتماعي أو غلبةٍ بالاستقواء، والعقل الذي ينطلق من البحث الدائم عن الحقيقية بقصد إقرارها حكمًا، وبقصد إنتاج المزيد من الأسئلة التي يحاول العقل الإجابة عنها أيضا. وإذا كانت كل سلطةٍ اجتماعيةٍ تتطلب أوهامًا وخيالاتٍ بحسب ( بول فاليري) فإنَّ علينا أن نسلمَ ابتداءً أن تناقضًا حقيقيًا وأصيلاً قائمٌ ما بين العقل والسلطة، كما أنَّ السلطة- في سبيل تحقيق أهدافها- لا تخضع للعقل؛ بل لما تمليه عليها مصالحُها. هذا الاختلاف بين بنية العقل وبنية السلطة يلزم كلا الطرفين بمحاولة للتقارب الإيجابي ، وبناء جسور الصلة، فالسلطة يفترض أن تتعقل؛ خاصةً في المواقف التي تتسم بالخطورة؛ وإلا صارت عُرضةً للانهيار، كما أنَّه من المعلوم أنَّ خيار العقل القاضي بالصدام الدائم مع السلطة لا يحقق غايات العقل في الوصول إلى الحقيقة التي لا يساوم عليها، ولكنه يستطيع أن يماري السلطة في قبولها بدرجة ما. وهذه العلاقة بين العقل والسلطة من شروط صحتها ألا تكون دائمةً؛ بل يجب أن تكون متقطعةً وعلى فتراتٍ، فالارتباط الدائم بينهما يعيق كلا منهما عن القيام بمهامه على نحوٍ مقبول، وليس معنى ذلك أنَّ السلطة تحتاج-في كثير من الأحيان- إلى التجاوز اللاعقلي، ولكنها – بحكم طبيعتها- تستلزم النظر إلى اعتباراتٍ عديدة- ربما- كان النظر العقلي المدقق حيالها لا يتفق والسرعة اللازمة لاتخاذ القرار، ومن ثم نجد السلطة السياسية في بعض قراراتها بعيدة كل البعد عن المنطق الذي يفرضه العقل؛ وهي في كثيرٍ من الأوقات تتذرع بأنها لا تستطيع الإفصاح عما لديها من حقائق ومعلومات تجعل من قراراتها المحيرة مقبولة ويمكن تمريرها، كما أنَّ السلطة السياسية تدأب على وصم الرؤى العقلانية بالتشوش وعدم الحسم، كونها تستند إلى ما هو نسبي ومتغير وتبتعد عما هو مطلق وقطعي. أما بالنسبة للعقل فإنَّ وجود علاقةٍ طويلةٍ مع السلطة أمر يورثه الخضوع الذي يسلمه إلى غير ما نيط به من مسئوليات، بل يخرج به عن مجال عمله الأصيل، وقد يتطور الأمر لأن يصبح العقل مؤدلجًا أو خادمًا للسلطة أو مبررًا لما تقوم به من ممارساتٍ، وإخضاع العقل وتدجينه هو بغيةٌ لا تهدأ كل سلطة في طلبها، والأمثلة في ذلك تجل عن الحصر. فماذا إذن عن سلطة العقل؟وهل يفترض صوت العقل سلطة العقل؟ السؤال يطرحه الدكتور ناصيف نصار، ويحاول بنفسه الإجابة فيقول أنَّه" لابد – في البداية- من توضيح معنى عبارة سلطة العقل؛ حتى نتمكن بعد ذلك من تحليل تفاعل السلطة السياسية مع سلطة العقل. فإذا كان كلام العقل كلام سلطة أصلية، فكيف ينبغي أن يكون وضعه بالنسبة إلى السلطة السياسية؟ كيف يمارس العقل سلطته في الحياة الاجتماعية التي تقع مسئولية تنظيمها وتنميتها على عاتق السلطة السياسية؟ وكيف ينبغي للسلطة السياسية أن تتعامل مع سلطة العقل، وهي تقوم بواجباتها المختلفة؟ هل إصغاء السلطة السياسية لصوت العقل، أي لكلام العقل كسلطة، واجب عليها؟إذا كان الجواب إيجابيًا، ينبغي حل الإشكال الذي ينشأ عند ذاك من كون السلطة السياسية مطيعة لسلطة أخرى. الأمر الذي يطرح مشكلة إمكانيات أو احتمالات (عقلنة) الفعل السياسي وحدودها". والواقع أنَّ أي سلطةٍ لا تخضع بشكل أو بآخر لسلطة العقل، تكون خاضعة بشكل ما لسلطة أخرى، وهي إما في حالة تبعية أو عداء مع الشعب الذي من المفترض أنَّها تمثلّه. وفي كل تباين حادث بين العقل والسلطة تكمن مفارقةٌ ما تسحق التوقف، ألم يكن من اللافت للنظر- مثلاً- أنَّ كثيرا من الساسة من خارج السلطة، ينتقدون كل فعل للسلطة ويصفونها ب ( الغبية) ويطرحون- دائمًا حلولاً وبدائل؛ فإذا ما أصبحوا جزءًا من السلطة تحولوا إلى صور كربونية من سابقيهم من مسئولي السلطة، هذا النموذج تكرر كثيرًا في الآونة الأخيرة حتى شارف أن يكون قاعدةً،وتفسير ذلك أن العقل إذا سلمنا له بسلطة، فهي سلطة ذاتية لا يمتد أثرها خارجيًا، هي سلطةُ محاسبةٍ ومراجعةٍ وتعديلٍ داخلية، هي أشبه ما تكون بصوت الضمير الحي، لكن السلطة السياسية خلاف ذلك تمامًا إنَّها – في الأصل- حالةٌ كاملةٌ من الهيمنة والإخضاع وفق شروطٍ صارمةٍ، وتوازن ملزم بين القوى الفاعلة في المجتمع. سيكون من المسلّم به أن نقول أن هؤلاء الساسة لم يبتلعوا ألسنتهم، ولم يلغوا عقولهم، وربما لم يخالفوا ضمائرهم أيضًا؛ لكنهم أشبه ما يكون بطلاب فائقين في الهندسة، وقع الاختيار عليهم للعمل في مركز أبحاث طبية! هل يبرر ذلك أن تتخلى كل سلطة عن العقل،أو أن تعملَ بمعزلٍ عن الحقائق، أو أن تُسقِطَ من حساباتها كل استجابةٍ موضوعيةٍ لمستجدات الواقع على سرعة تفاعله وجريانه؟ يلزم لكل سلطةٍ حالةٍ من الثبات حتى تستطيع بسط سيطرتها وفق ما تختاره من آليات لذلك، يصل هذا الثبات – في أحيان كثيرة- إلى الموات، ويستخدم في هذه الحالة اسم أقرب إلى (التدليل) هو الاستقرار، بينما يتطلب العقل نشاطًا متواصلاً لا يهدأ ولا يرضى ولا يستنيم إلى ما يصل إليه من إجابات، ما يلبث أن يمحصها ليعدلها أو لينقلب عليها بالكلية إذا اقتضى الانحياز للحقيقة ذلك، وهو في كل ما تقدم وثيق الصلة بالواقع يراه بعين البصيرة، ويطرح له ما يمكن أن يعالجَ قصوره وتأزماته، بيد أنَّ السلطة تعمَى وتخادع، بحسب ما تفرضه عليها بنيتها المؤسسة على بسط السيطرة ووجوب الانصياع لقوتها الجبرية. لا يملك العقل ممثلاً في الباحثين عن الحقيقة شيئًا حيال السلطة- أية سلطة- سوى التمسك بقيم الحق والخير والإخلاص في البحث عنها للناس جميعا، بينما السلطة السياسية لا تستطيع التجردَ من دوافع الأنانية كونها مشخصنة تعمل وفق مصالح الحكام ورؤيتهم المحدودة للشئون العامة وتفسيراتها، وما السبيل إلى إفساح المجال للعقل بالقدر الذي يسمح بإحداث حالةٍ من التوازن الذي يحفظ للدولة بقاءها وتماسكها- سوى التعددية التي تتيح الاختلاف والنقد وتلاقح الفكر، وهي مقومات البيئة التي ينمو فيها العقل العلمي والفلسفي، أما الأحادية الدجمائية والصوت المنفرد فهو المناخ الخانق الذي لا تنمو فيه سوى الطفيليات و الفيروسات القاتلة.