لم تتعرض العلاقات المصرية الأميركية طوال تاريخها إلى اهتزازات ومراجعات مثل التي حدثت خلال الأربع سنوات الماضية، فبداية من تخلي واشنطن عن نظام مبارك،أكبر نظام حليف استراتيجي لها في الشرق الأوسط، في 2011، مروراً بمحاولة أعادة التوازن والتدخل لتصعيد الإسلاميين إلى سدة حكم أكبر دولة عربية عد، إلى المراوحة بين استعداء ما أفضى إليه بعد ما حدث في الثلاثين من يونيو، وبين التوافق معه إلى حد المباركة، وخاصة للحاجة الأميركية الملحة لدور مصر في ترتيبات عودة الهيمنة العسكرية الأميركية للشرق الأوسط من بوابة الحرب على تنظيم "الدولة الإسلامية" المعروف إعلامية بإسم "داعش". في السياق السابق، طرح الدبلوماسي "مارك .جي. سيفرز" نائب رئيس البعثة الدبلوماسية الأميركية بالقاهرة سابقاً والقائم سابقاً بأعمال السفير الأميركي فيها والمستشار بمرتبة وزير في الخارجية الأميركية والخبير بشئون الشرق الأوسط، والخبير المقيم بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، رؤيته عن ملامح التعاون بين النظام المصري الجديد بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي وبين الإدارات الأميركية الحالية والقادمة، مرتكزاً في طرحه على مقومات السياسة الأميركية الحالية في المنطقة، ومحددات السياسة المصرية داخلياً فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وخارجياً فيما يتعلق بالقضايا الاعتيادية مثل العلاقات المصرية الإسرائيلية، والطارئة مثل مكافحة الإرهاب ومواجهة تهديد التيارات المتطرفة التكفيرية وفي القلب منها تنظيم "داعش"، والتهديد الذي يمثله لدول المنطقة والمصالح الأميركية عامة، والتهديد الأمني لحدود مصر الشرقيةوالغربية خاصة. وصولاً إلى تصور مبدئي عن مستقبل مصر في خارطة المصالح الأميركية في المنطقة، وهل ستستمر كما كانت في عهد مبارك والمجلس العسكري ومرسي، أم أنها ستتغير ومعايير ومحددات هذا التغير وأفقه المستقبلية على كافة المستويات وخاصة الإقليمية منها. وفيما يلي نص مقال "سيفرز": لم يغدو بعد وزير الدفاع المصري السابق ورئيس الجمهورية الحالي عبد الفتاح السيسي بعد شخصية معروفة خارج مصر. فبخلاف الاجتماع الثنائي الذي عقده مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما في أواخر سبتمبر، استغلت الحكومة المصرية حضور السيسي اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لكي تعقد له سلسلة من اللقاءات مع المحللين والمثقفين وقادة الأعمال وجماعات المصالح الأمريكية بهدف تقديم رئيس البلاد الجديد إلى فئات من الجمهور الأمريكي ذات التأثير على العلاقات الأمريكية المصرية. وعلى الرغم من ذلك يبقى السيسي موضوع تقارير متعارضة ومتناقضة مع بعضها البعض. فعلى سبيل المثال: الرئيس المصري هو خصم لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، ولكنه معروف في الوقت نفسه بكونه مسلماً ورعاً عينه الرئيس السابق محمد مرسي لتولي منصب وزير الدفاع كجزء من جهود مرسي لإحكام السيطرة بشكل أكبر على الجيش. وفيما يلي محاولة من دبلوماسي أمريكي(الكاتب) اتيحت له فرصة حضور عدد من الاجتماعات مع السيسي خلال العام الماضي، لتقديم بعض الملاحظات حول أحد أهم القادة الناشئين في الشرق الأوسط. في ما يخص بروز تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام(داعش)، يحث السيسي الحكومات الغربية على البحث عن مراكز التجنيد العاملة في أوساط المجتمعات المسلمة في الغرب وإغلاقها. وفي هذا السياق، يصر السيسي على أن حملة الجيش المصري ضد الإرهاب في شبه جزيرة سيناء وربما على الحدود في ليبيا تندرج في إطار الحرب ضد التطرف الإسلامي التي تقودها الولاياتالمتحدة ضد داعش. ورد السيسي بحزم وبتحد على الهجوم الذي شنه جهاديين في 24 أكتوبر على موقع عسكري مصري في شبه جزيرة سيناء والذي أسفر عن مقتل ثلاثين جندياً على الأقل، بإعلانه حالة الطوارئ في بعض المناطق من شمال سيناء، واتهامه قوى أجنبية لم يسمها بتمويل الهجوم، ومتوعداً بشن "حرب شاملة" ضد الإرهاب. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن التدخل المصري في ليبيا الذي جرى الإعلان عنه في وسائل الإعلام، في حين نفته الحكومة المصرية رسمياً، ربما يمثل بداية جديدة تختلف عن السياسات الحذرة تجاه التهديدات الأمنية العابرة للحدود التي أتبعها مبارك وطنطاوي ومرسي، مما يدل على جدية القيادة المصرية الجديدة في تعاملها مع التهديدات التي يطرحها الإرهاب والتي تبرز من خلال وجود جماعات إرهابية مسلحة في سيناء وفي صحراء ليبيا الغير خاضعة للسلطة. وبالتوافق مع وجهة نظر المؤسسة الإسلامية الرسمية (الأزهر الشريف) في مصر، يصر السيسي على أن الجماعات المتطرفة تستغل الدين والأفكار الدينية لأغراض سياسية، ولكنها لا تمثل فهماً صحيحاً للإسلام. وفي الوقت ذاته، يواصل قوله أن المجال متاح أمام جماعة الإخوان وغيرها من الإسلاميين غير المشاركين في أعمال العنف للانضمام إلى العملية السياسية. ويلاحظ هنا أن جهود المصريين وغيرهم لتعزيز الحوار بين حكومة السيسي وبعض النواب المتبقين من جماعة الإخوان أو غيرهم من أنصار مرسي لم تسفر حتى الآن عن نتيجة، ولكن سيكون أمراً مثيراً للاهتمام أن نرى إلى أي مدى سيسمح للإخوان المسلمين وغيرهم من مؤيدي مرسي بالمشاركة في الانتخابات المقبلة كمستقلين، أو إذا كانت الجماعة ستقرر مقاطعة العملية الانتخابية بشكل تام. لقد أوضح السيسي أن أولوياته كرئيس للبلاد تتجلى في إعادة بسط النظام وإنعاش الاقتصاد. وتشير تصريحاته حول الاقتصاد المصري إلى إدراكه بأن نظام الدعم الحالي غير مستدام، وبالتالي كانت أول مبادرة له كرئيس هي تنفيذ سلسلة من إصلاحات الدعم التي خَطط لها اقتصاديون مدنيون بدقة. إن علاقة السيسي بنخبة رجال الأعمال المصريين ستكون إحدى النقاط المهمة التي ستحدّد إمكانية نجاح سياساته الاقتصادية. وتشير بعض تصريحاته إلى الاعتقاد بأن الجيش يجب أن يستمر في لعب دوراً فاعلاً على الصعيد الاقتصادي، لا سيما في مجال تطوير البنية التحتية. ونظراً إلى خلفيته العسكرية وإلى تعليمه، سيحتاج إلى المشورة الاقتصادية من الدرجة الأولى للوصول إلى السياسات الصحيحة. ولقيت خططه الطموحة، التي تقوم على توسيع قناة السويس، استحسان الجمهور المصري، وذلك يعود على الأرجح إلى رمزية المشروع الوطنية أكثر من جدواه الاقتصادية. ولا تأتي المصالحة السياسية على رأس جدول أعمال الرئيس المصري؛ وفي البيئة الوطنية الشديدة الحساسية السائدة حالياً في مصر، يعتبر العديد من المصريين أن مصطلح "المصالحة" محظور لأنه يحمل في طياته فكرة بقاء الإخوان المسلمين شريكاً شرعياً في الحوار. كما أن الإجراءات الصارمة التي تتخذها الحكومة المصرية بحق المعارضة السياسية، بما في ذلك إدانة صحفيي قناة الجزيرة وعدد من النشطاء البارزين اليساريين والليبراليين، أسفرت عن توجيه انتقادات دولية كبيرة لهذه الحكومة. لكن في أوساط معظم المصريين يبدو على الأرجح أن نجاح سياسات السيسي الاقتصادية أو فشلها هو عامل سيلعب دوراً أكبر في تحديد ما إذا كان سيتمكن من الحفاظ على الدعم الشعبي. فعلى عكس مبارك، يعلن السيسي بصراحة عن التغيير الجذري في العلاقة بين حكام مصر ومواطنيها. إذ نُقل عن السيسي قوله لمجموعة من البرلمانيين الفرنسيين "إذا قرر الشعب المصري أنه لا يريدني، سأذهب". وبغض النظر عما إذا كان قوله هذا صادقاً أم لا، فهو يمثل اعترافاً مثيراً للاهتمام بأنه لم يعد بإمكان الحكام المصريين اعتبار الشرعية الشعبية أمراً مفروغاً منه. منذ الإطاحة بالملك فاروق يوليو 1952 من قبل مجموعة من الضباط العسكريين، تولى العسكريون حكم مصر باستثناء فترة رئاسة مرسي التي دامت عاماً واحداً فقط. ويتناسب السيسي مع هذا النمط من نواح كثيرة، إلا أنه قد يمثل شخصية انتقالية من نواحٍ أخرى. فهو خريج "كلية الحرب التابعة للجيش الأمريكي في كارلايل" بولاية بنسلفانيا، ويتحدث بدفء عن السنوات العديدة من تعاونه الوثيق مع الجيش الأمريكي، أي أنه النقيض الواضح للطنطاوي المدرب على أيدي السوفييت، والذي كان سلفه مباشرة في منصب وزير الدفاع. ومع ذلك، فهو أيضاً قوميّ يعتز بانتمائه ويصرّ على أن مصر تحتاج إلى تطوير علاقاتها مع القوى الأخرى، مثل روسيا والصين. وبالطبع، جعل السيسي من استعادة العلاقات التاريخية التي تربط مصر بشكل وثيق بالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ضرورة استراتيجية. لكن على الرغم من التقارير الإعلامية المتكررة حول عقد صفقة أسلحة ضخمة جديدة مع روسيا، يبدو أن اتصالات السيسي بموسكو حتى الآن هي عبارة عن القيام بدراسة أولية لخيارات مطروحة أكثر من كونها تحولاً استراتيجياً، كما أن المتحدثين باسم الحكومة المصرية يصرحون مراراً وتكراراً بأن القاهرة لا تسعى إلى استبدال شريك بآخر. وفي الوقت نفسه، فقد تم التأكيد على تعاون السيسي الأمني الوثيق مع إسرائيل في سيناء وعلى تفهمه لمخاوف إسرائيل الأمنية في غزة من خلال تقدير خاص من الجيش المصري والاستخبارات المصرية لموقف إسرائيل الداعم. فقد دفع هجوم 24 أكتوبر في سيناء بالحكومة المصرية إلى تأجيل استضافة المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية حول قطاع غزة التي كان من المقرر عقدها في القاهرة، ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى المزيد من التعاون الأمني وراء الكواليس ما بين إسرائيل ومصر. وقد أشارت الحكومة المصرية إلى أنها تشك في ضلوع جماعات فلسطينية في غزة في الهجوم الذي شهدته سيناء، إلا أن أساس هذه التهم ليس واضحاً. وعلى الرغم من التوترات الجديدة بين مصر وحماس، وفي ظل غياب أي تقدم ملحوظ بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يبدو من غير المرجح أن يؤدي التعاون الأمني الجديد إلى ظهور علاقة سياسية أكثر ودية وعلانية مع إسرائيل. وحتى لو أنها لم تعد دولة تابعة للولايات المتحدة، فلا تزال مصر بمثابة جائزة استراتيجية وعنصراً رئيسياً للاستقرار في الشرق الأوسط. على الأقل وعلى مدى السنوات القليلة المقبلة من المرجح أن يحدد السيسي مصير سياسات وأي اتجاه ستتخذه البلاد.