عاشت العديد من الدول فى أرجاء العالم المختلفة، تئن لفترات طويلة من وطأة الإحتلال من الدول الإستعمارية الكبرى كإنجلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا وتركيا ،وغيرها من الدول التى سعت لإقامة المستعمرات شرقاً وغرباً؛ لبسط نفوذها على العالم وإستغلال موارده للحد الذى أفسد كل مظاهر الحياة الإنسانية السليمة، بل وامتد هذا الظلم والإعتداء ليشمل العناصر البيئية والجغرافية، ولذلك دأبت الدول التى نالت إستقلالها بعد صراع طويل مع المحتل بالإحتفال بهذه المناسبة السعيدة؛ كنوع من الفخر والإعزاز لما قدمه الكثير والكثير من أبناء تلك الأوطان فى سبيل التحرر.. ولكن فى كثير من الأحيان تلجأ الدول الإستعمارية التى تمرست فى إدارة الشعوب وإستغلالها إلى العديد من الحيل والمكائد التى تضمن بشكل أو بأخر تدخلها فى إدراة تلك البلاد بشكل خفى بعد الإستقلال، أو على الأقل تفتيت قوة تلك البلاد وإعاقة نموها مستقبلاً، وذلك لحفظ موازين القوة العالمية فى صالح المستعمرين الكبار. ولعل أبرز الأحداث التى أدت إلى إختلال التوازن العالمى هى: الحرب العالمية الثانية، التى سقط جرائها أكثر من 50 مليون قتيل، غير الجرحى والمفقودين، ودمرت دول بالكامل وإرتكبت العديد من الجرائم البشعة باسم القومية، وباسم العرقية، وباسم الحريةإ وباسم الدين. فى بداية الحرب كانت ألمانيا ودول المحور فى حالة من التفوق العسكرى الميدانى فى أوربا وشمال أفريقيا، وكانت بريطانيا وحلفاؤها فى دوامة من الهزائم المتتالية على عدة جبهات ولجأت إنجلترا إلى التعبئة العامة من مستعمراتها والدول الموالية، ولضمان خضوع تلك القوات المختلطة للتاج البريطانى ودول الحلفاء؛ استمرت فى توزيع الوعود وصكوك الحرية تماماً كما فعلت أثناء الحرب العالمية الأولى ونكثت وعودها. وكانت الهند من أكثر المستعمرات تطلعاً للاعتراف بأهميتها لدى بريطانيا، لما قد يحسن كثيراً من موقفها بعد الحرب، ورأى الهنود فى أنفسهم كدولة غنية بالمواد الخام والموارد البشرية، شريك رئيسى فى الحرب الدائرة، وطمعوا فى إعتراف بريطانيا بذلك، ولكن كان للإنجليز رأى مختلف تماماً فى هذا الشأن، فقد بدأت جولة الإنجليز للتعبئة العامة فى كندا وليس فى الهند على عكس المتوقع، وكانت الخطة الإنجليزية الماكرة تهدف إلى ضمان الولاء الكندى لبريطانيا، التى تربطها بها أصول دينية وعرقية مشتركة " انجلوساكسون " وذلك بهدف تحويل كندا -البعيدة عن المعارك الدائرة فى أوربا وبمأمن من نيران الألمان- لمصنع ضخم لإنتاج السلاح والذخيرة لقوات الحلفاء، بينما كانت تلك الخطة تهدف إلى تحويل الهند لمصنع لإنتاج الجنود الذين يتلقون الرصاص نيابة عن الجيش الإنجليزى وكانت نتيجة تلك التعبئة العامة الدولية: أن جمعت قوات الحلفاء 70 ألف مقاتل من كندا و 600 ألف مقاتل من أفريقيا ومليون مقاتل من استراليا بينما جمعت من الهند مليونين ونصف مقاتل وبالفعل انتهت الحرب بإنتصار بريطانيا وحلفائها على دول المحور، وبدأت الهند تضغط فى سبيل الحصول على إستقلالها، وبعد ذلك تغير ميزان القوى العالمى؛ حيث أصبحت الولاياتالمتحدةالأمريكية وروسيا فى موقع الصدارة وخاصة أنهم شاركوا فى الحرب متأخراً وحصدوا الأرباح تماماً كالآخرين. واضطرت بريطانيا للموافقة على الاستقلال، ولكنها بدأت أولاً فى حصاد ثمار ما زرعته فى الهند طوال السنوات الطويلة من الإحتلال، من بذور الفتنة الطائفية والعنصرية بين المسلمين والهندوس، وهو ما كانت تلجأ إليه لضمان بقاء الشعب الهندى مفرق ومشغول فى أزمات داخلية، تمنعه من الوحدة والتفكير فى الاستقلال، ويكفى أن نعرف أن تعداد الجيش البريطانى فى الهند لم يكن يزيد عن 150 ألف، بينما كان تعداد سكان الهند يتجاوز 350 مليون نسمة، لندرك على الفور أنه ليس بالسلاح وحده تدار الشعوب. وجمعت إنجلترا كل من: المهاتما غاندى ومحمد على، جناحيّ قادة التيارات الرئيسية فى الهند للتشاور فى طريقة إدارة الهند بعد الاستقلال فى مؤتمر استمر لمدة عشرين يوماً كاملة حول مستقبل الهند، ولكنهم لم يتوصلوا لشئ وخاصة أن إنجلترا كما وصفها المهاتما غاندى فى قوله "إن محادثتنا تمشى فى خطوط متوازية ولن تتقاطع أبداً " شجعت إنجلترا بعد فشل المؤتمر على تقسيم الهند لدولتين على أساس دينى هما الهندوباكستان، التى قُسمت بعد ذلك مرة أخرى لتصبح باكستان وبنجلاديش؛ لتضمن تحويل تلك الكتلة الضخمة من الموارد والسكان لكتل أصغر تتصارع فيما بينها، وفى إطار هذا التقسيم شهدت المنطقة أكبرعملية نزوح وتهجير فى الدولتين الناشئتين، بما يعادل أربعة ونصف مليون نسمة من باكستان فى إتجاه الهند، وستة مليون نسمة من الهند فى إتجاه باكستان فُقِد خلالها أكثر من 500 ألف شخص جراء الإقتتال بين تلك المسيرات على طول الطريق وقيام عصابات مسلحة بالهجوم على النازحين، وقد شهد التاريخ العديد من الفصول الدموية بين الهندوباكستان، ومازالت العداوة مستمرة.. إلا ان هذا الثمن الباهظ قد يبدو ضئيلا إذا تذكرنا خطاب نهرو فى 15 أغسطس 1947 عشية الاستقلال، إذ قال: "لقد أخذنا عهداً على انفسنا أمام القدر منذ وقت طويل، وقد حان الوقت لتحقيقه, مع ضربات منتصف الليل سينام الناس فى كل أرجاء العالم، ولكن الهند ستصحو على فجر الحرية والاستقلال".