بعد بضعة أشهر من اندلاع ثورة 25 يناير، اجتهد الأستاذ هيكل كثيرًا في قراءة واقع ملبد بالغيوم.. أبكر الرجل في استطلاع هلال أحداث اختلط فيها الدم بالنار بالصرخات.. واستنطقت خبرات السنين ظلالا من الحقائق التي نعيشها اليوم، فكان تشبيهه البليغ الذي قال فيه: "المصريون عاملين زي اللي طلع القمر ولما وصل هناك.. قالوله عايز إيه بقى بعد الإنجاز ده؟؟ قالهم عايز كيلو كباب..!!".. حسنًا.. ففي تلك الرؤية كان الدواء المر الذي واجه بجرأة سقم التخبط والفوضى التي عاشتها مصر وقتذاك. لكن، الظن أن مراجعة جزء مما جرى بعد ذلك التاريخ قد فاق توقعات الأستاذ بمراحل وإن لم يفلت من قوة تأثيره المغناطيسي، فقد اقتربت أحلام المصريين من فلك القمر ومدارات النجوم في تطلعاتها وطموحاتها المتطاولة، لكن الثورة وقواها على الأرض استبدلت (شواء الكباب) بحلوى (الفنكوش)، ذلك الاختراع الأسطوري الذي عبرت عنه إحدى الأعمال السينمائية للفنان عادل إمام، وأدخل أبطال المشهد بأكمله في حالة سُكر عام، ليستفيق الجميع على حالات إنسانية عكس ما تصوروا أو أرادوا أو حتى حلموا، ولتصبح "الفنكوشية" هي المدخل المثالي لفهم وربما مراجعة مجريات الحالة الثورية. لقد كانت أول حبات (الفنكوش) التي تعاطاها المصريون بعد ال11 من فبراير، حين استسلموا للخدعة القائلة بأن ثورة 25 يناير بدون قائد أو رأس مدبر، وظلت طاحونة الإعلام والنخب السياسية والثقافية تستنزف طاقة المصريين في البحث والتمحيص خلف ذلك الوهم، فيما كانت تلك هي الشجرة أو قل حصان طروادة الذي حجب غابة وجيوشا من الأسئلة، حول طبيعة وتفاصيل المشروع السياسي والاقتصادي الواضح الذي يعبر عن المطالب التي خرج من أجلها المصريون في حشود غفيرة، ودفعوا من أجلها فاتورة غالية إنسانيا وماديا. كان وهم القائد والمخلص هو المخدر الذي أدخل المصريين في غيبوبة عميقة، جعلتهم جثة هامدة دون حراك أو تأثير فيما جرى بعد ذلك التاريخ، حتى وإن كان المشهد العام تزين بمسوح ديمقراطية عبر صناديق الاقتراع، فمع البحث عن قائد الثورة كان ان ضبطت التحركات بين هذه الصناديق في حالة سُكّر عام وصريح، تتخبط بين اختيارات سياسية واقتصادية وقديمة، وتعيد فتح صفحات أغلقها التاريخ بحكم الضرورة لا بحكم الاختيار، بل وتتفاقم المشكلة مع محاولة فصل تلك الرحلة المغيبة عن حقائق معقدة لوطن ودولة لها امتداداتها وجذورها التاريخية. لا بأس إذن، ووسط التفاعلات الدامية التي وقعت على مدار أكثر من 3 سنوات، أن نرقب التسليم والتسلم قد انتقل من المجلس العسكري إلى الإخوان ثم الى نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي، فيما يزال تأثير "الفنكوش الثوري" فاعلا وقويا، فالبحث عن القائد أو ظلال القائد ما يزال مستمرًا، والطموحات والأحلام ما تزال تعانق أفلاك القمر وتتعلق في رقبة رجل واحد، في مقابل غياب كامل لأي رؤية متكاملة أو مشروع واضح يعبر عن إرادة الثورتين داخليا وخارجيا، والإشكال أن محصلة ما يجري منذ 11 فبراير هو رهانات وتجارب وتعلم بطريقة الصواب والخطأ.. فهل ذلك مما تحتمله مصر الآن؟!! إذن، يكفي فقط أن تسأل مصريًا غير مسيس (الأغلبية الصامتة) عن رأيه في الأوضاع الحالية، فستكون الإجابة المصكوكة بضمير مستتر تقديره السيسي على شاكلة: (راجل كويس .. ربنا يوفقة.. إن شاء الله هيعمل حاجة.. بكرة تشوف)، وهي إجابة مغرقة في الغيبية والسلبية، فالسيسي هو القائد الذي يتحمل المسؤولية كاملة وعلى كفه تنعقد آمال وطموحات وأحلام الملايين، لكن عن أي أحلام نتحدث؟؟!! ما طبيعة تلك الأحلام؟؟!!.. هل هي أحلام على الطريقة الناصرية أم الساداتية أم المباركية فيما ما قبل التوريث؟.. أحلام مدعومة أم منزوعة الدعم؟؟ .. أحلام تحت سيطرة القطاع العام أم في حبائل الخصخصة ورجال أعمال مبارك أم الاثنان؟؟ أحلام ديمقراطية أم ديكتاتورية أم الاثنان؟؟ مع أمريكا أم ضد أمريكا أم الاثنان؟؟! .. والى حين الإجابة على تلك الاسئلة.. يبقى الوضع على ما هو عليه.. شعب لا يعرف ماذا يريد؟ ولا يريد أن يُعّرف مطالب الثورة؟ سنبقى في تلك الدائرة المفرغة إلى حين.. لأن الثورة لم تموت!!