هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري (159 255 ه) صاحب كتاب الحيوان والبيان والتبيين والبخلاء، ونحو مئتي كتاب ضاع قسم كبير منها، أما القسم الباقي منها فبعضه ناقص وبعضه منحول، وبعضه تام وصحيح، وعلى الرغم من أن آثار الجاحظ تنطوي على قيمة فكرية كبيرة ترجع إلى شموليتها وأصالتها، كما تميزت نظريته في المعرفة وتفردت عن سائر ما جاء به المتكلمون والفلاسفة ممن سبقه، وكان له السبق في وضع أسس علم البيان العربي، وكانت له ملاحظاته الطريفة فيما يتعلق بعلم نفس الحيوان، وتأثير البيئة والتطور ونظريته المعروفة في الإمامة- إلا إنه لم يصنف كفيلسوف؛ و لعل السبب في ذلك يرجع إلى أن الجاحظ لم ينظم رؤاه في نسق واحد، فلم تنعت أفكاره بالفلسفية، كما لم يقم له مذهب يمكن وصفه بالتفرد. وإذا كان من المحتم علينا الاحتكام إلى التعريف الدقيق للفلسفة كونها "نظاما فكريا متماسكا محكم البناء والتصميم، أو أنها مجموعة الدراسات التي ترجع جميع المعارف البشرية، إلى عدد محدود من المبادئ الأساسية، وتسعى إلى تكوين نظرة شاملة عن العاالم" فإن الجاحظ ربما خرج عن هذا التصنيف أيضا. لكن الفلسفة في العصور الحديثة كانت قد اتخذت اتجاهين أساسيين: الاتجاه الأول ويسمى بالفلسفة النقدية وينصب على موضوع المعرفة لاكتشاف أسسها وماهيتها وطرقها، أما الاتجاه الثاني فقد شمل الدراسات ذات الأحكام القيمية في الأخلاق والجماليات، وهو ما سمي بفلسفة القيم، وهو ما يجعل المعنى الذي اتخذته الفلسفة منطبقا على ما كتبه الجاحظ في مجال الأخلاق ومجال علم الجمال الذي توسع الجاحظ في التأليف فيه؛ فتناول مفهوم الجمال ومظاهره في اللغة والخطابة والشعر وغيرها. ودائما ما نرى إلماحا إلى أن لغة الجاحظ الأدبية هي التي أخرجته من زمرة الفلاسفة ومفكري عصره، وحبسته في ثلة الأدباء، وحتى وإن سلمنا بذلك وبعدم انضباط المصطلح الفلسفي لدى الجاحظ ، فإن ذلك لا يعني أن الجاحظ لم تكن له مناحيه الفلسفية التي لا تخطئها عين، ويشير د. علي أبو ملحم إلى ذلك فيقول"ونعني بالمناحي الفلسفية عند الجاحظ تلك الاتجاهات الفكرية التي تنطلق من ميدان الفلسفة لا من ميدان الأدب؛ ذلك أن الجاحظ لم يكن أدبيا فقط، وإنما كان مفكرا أيضا، اشرأب بنظره إلى ما بعد آفاق الأدب، فأطل على ميادين الفلسفة المختلفة من طبيعيات وإلهيات وجماليات وأخلاقيات واجتماعيات، وراح يراقب ما يعترك في ساحتها من مذاهب، وما يحتدم عندها من جدل، ودفعه فضوله إلى إبداء آرائه حول المسائل الفلسفية الأساسية، وقد نثرتلك الآراء في تضاعيف كتبه، ولم يقدم على جمعها في صيغة المذهب الفلسفي المنتظم على نحو ما نعهدعند كبار الفلسفة". وسواء اتفقنا أو اختلفنا حول الجاحظ هل كان أديبا أم فيلسوفا، أم جمع بين الأمرين، إلا أننا سنصل إلى أن الرجل قد امتلك منهجا فكريا يقوم على أسس واضحة وخصائص لا تخفى على محقق وهي النقدية والجدلية والاستقرائية والشكية والاستطرادية والواقعية والعقلانية، فلقد اهتم الجاحظ اهتماما كبيرا بنقد المذاهب الفكرية الأخرى، ربما بأكثر ما اهتم بعرض فلسفته الطبيعية والكلامية والجمالية والخلقية، لكن الخقيقة تقتضي أن نقول أن نقد الجاحظ للفرق الأخري لم يكن تعصبا أعمى لمذهبه الاعتزالي، فهو أبعد ما يكون عن ذلك إذ انتقد شيوخ المعتزلة وخالفهم في آراء كثيرة، كما أن نقده كان موضوعيا لا يتجنى فيه على أحد، ولا يتهم فيه احدا بما ليس فيه، فكان يهتم بشرح آراء غيره وتبيانها، ثم يعمد إلى إظهار ما فيها من تهافت وخطأ بروح ساخرة ضاحكة سمحة رائدها التقويم ودافعها الإصلاح. أما الجدلية فقد فهمها الجاحظ بمعنى المناظرة أو النقاش الذي يدور بين شخصين يمثلان أفكارا متناقضة؛ لذلك بنى جدله على مبدأ التناقض، واعتمده كوسيلة لكشف الحقيقة عن طريق احتكاك الآراء الذي يولد نور اليقين. ولقد كان تفكير الجاحظ استقرائيا بشكل إجمالي؛ فإذا عرضت له مسألة من المسائل راح يتأملها ويلاحظ ما يتصل بها وما يصدر عنها وما يحيط بها، ويجمع الملاحظات عن طريق التجربة والسماع والعيان ثم يستنبط أحكامه. وعندما ننظر إلى شكية منهج الجاحظ نجدها تختلف عن الشكية في مفهومها الفلسفي العام المعروف، فهو يعتقد بإمكانية المعرفة، كما يعتقد بوجود الحقيقة، وهو القائل: إن عقل الإنسان قادر على المعرفة، وفهم الأشياء وإدراك العالم الذي يحيط به. وهي ليست شكية مطلقة بحسب نظريته في المعرفة ، لكنها مقيدة بأصول وقوانين معينة، غير أن الشك الذي لازم الجاحظ دفعه إلى عدم التسليم بالأخبار واللآراء التي يسمعها أو يقرأها والظواهر التي يراها إلا بعد الفحص الدقيق والملاحظة الشديدة؛ لذدلك فإن القول بأن الشك عند الجاحظ هو طريق للوصول إلى حقائق الأمور، وليس هدفا بذاته- هو قول صحيح؛ خاصة وأننا نرى في غير موضع مما ترك من مؤلفات نهي صريح عن الإسراف في الشك واتخاذه غاية، وتحذيره من ذلك كونه خطرا يؤدي إلى الهلاك. وربما كان من اللطيف أن نتناول ختاما خصيصة الشمولية في منهج الجاحظ العلمي، والتي تعني عنده الثقافة الواسعة، إذا كان بحق- كما قيل- دائرة معارف، إذ ألم بكافة فروع المعرفة ، وكتب في جميع الموضوعات، وقد عابوا عليه أنه لم يتعمق الموضوعات التي بحثها وأنه ذهب عمقا فيها بألق مما ذهب عرضا، فبدت بعض كتاباته سطحية بلا تنسيق أو تبويب، حتى قيل عنه أنه كان خزانا ممتلئا بالمعارف فتحت فوهته؛ فراح يتدفق ما فيه ليملأ صفحات الكتب، وربما كان ذلك علة الأمر في أنه على ذيوع صيته، قد حد بالأديب ولم يذكر ولو لمرة واحدة في زمرة الفلاسفة.