في تصريح لهيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة لمجلة "ذي اتلانتك" (الأطلنطي)، بشأن شخصية محمد مرسي، قالت "إن الفرصة أعطيت له.. ولكنه أثبت أنه على المستوى الفردي لا يفهم في شؤون الحكم رغم أنه مهندس..". على أن عدم كفاءة مرسي في الحكم لا ترجع فقط إلى أنه "مهندس"، بقدر ما ترجع إلى انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين، وهم عناصر أسرى الفكرة الواحدة منذ قام حسن البنا بتأسيسها (1928) على مبدأ السمع والطاعة وعدم المناقشة والمجادلة فيما يقرره حين قال لهم: "إن الدعوة يقوم عليها فرد له الأمر وعليكم الطاعة". ومن المعروف أن هذه الفلسفة تحكم الجماعة منذ ذلك التاريخ، ولهذا فإن كل من كان يناقش أو يجادل أو يظهر أنه مستقل الرأي يخرج من الجماعة. لكن دهشة هيلاري كلينتون من فشل مرسي في إدارة شؤون الحكم رغم أنه "مهندس" يعني أنها تعتقد أن "المهندس" يفهم حتما وبالضرورة في كل أمور السياسة والحكم وسائر مشكلات المجتمع الإقتصادية والاجتماعية ويقدر على إدارتها بنجاح، وهذا حكم غير علمي، ذلك أن خبرات الحكم والسياسة لها مصادرها غير تعلم الهندسة، وغير التربية في جماعة لا تدين إلا بفكرة واحدة. غير أن تخصص مرسي في الهندسة قد يكون له علاقة بإنتمائه لجماعة الإخوان المسلمين وتنشئته على الفكرة الواحدة ومن ثم تفسير فشله في إدارة شؤون الحكم. ذلك أن المنهج الدراسي في الكليات العملية مثل الهندسة والطب والصيدلة والعلوم تقوم على الفكرة الواحدة وليس على الأفكار المتعددة، إذ أن ذلك المنهج يقوم على استخدام نظرية واحدة ثبتت صحتها بالبرهنة عليها ويظل الاستناد إليها قائما إلى أن تستحدث نظرية جديدة فتصبح النظرية القائمة في تاريخ العلم وليست من العلم نفسه، على حين أن المنهج الدراسي في العلوم الاجتماعية في التاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة والجغرافيا ..إلخ لا يعتمد على الفكرة الواحدة أو النظرية الواحدة، والنظرية الجديدة في تفسير الظواهر محل الدراسة لا تلغي النظرية السابقة عليها بل أن كل النظريات قائمة، ومن هنا تتعدد وجهات النظر والآراء، وكل فكرة لها وجهاتها عند أصحابها أو المتلقين لها، ولا توجد حقيقة يقينية. وترتيبا على هذا، فإن ابن الكليات العملية يصبح أحادي الفكر ومؤهلا لقبول الفكرة الواحدة في السياسة كما في العلم التطبيقي، ومن ثم يقع في كثير من المشكلات لأنه لم يتعلم إلا النظرة المطلقة فيما هو نسبي، عكس ابن العلوم الاجتماعية الذي يتعلم أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة. ومن يراجع أسماء أعضاء الجماعات الإسلامية في مصر وخاصة الإخوان المسلمين سيجد أنهم في الغالب الأعم أبناء كليات الطب والصيدلة والهندسة والعلوم والزراعة الذين نشأوا على أحادية الفكر ومن ثم كانوا تربة صالحة لزرع الفكرة الواحدة (إسلاميا) في ذهنهم فأصبحوا أداة لجماعة لا تعرف إلا السمع والطاعة. ويندر أن يوجد بينهم واحد من أبناء العلوم الاجتماعية إلا إذا كان أباه أو أحد أعمامه من الجماعة أو كان يسكن في حارة أو في قرية أو في نجع وقع تحت سيطرة أحد كوادر الجماعة. وهذا يعني في النهاية أن نظام التعليم في مصر مسؤول إلى حد كبير عن سيطرة الفكرة الواحدة التي يروح أصحابها ضحية الاتجاهات المتطرفة، وذلك بالفصل الحاد بين العلوم الاجتماعية والعلوم التطبيقية حين يجد تلميذ المرحلة الثانوية نفسه في حالة من التخصص بين القسم العلمي أو الأدبي، ولا يدرس تلميذ القسم العلمي أي مقرر دراسي من العلوم الاجتماعية (التاريخ أو الفلسفة أو الاجتماع..)، فينشأ بالتالي أسير الفكرة الواحدة التي يعتقد بصحة تطبيقها في الحياة الاجتماعية والسياسية مثلما هي صحيحة في الظاهرة الطبيعية التي يدرسها. وهذا الفصل الحاد لا يحدث إلا في مصر على حين أن الجامعات في العالم في حدود معرفتي تفرض على طلاب الجامعة في كل التخصصات مقررا في فلسفة العلم، أو التاريخ، أو الاقتصاد السياسي، وذلك هو المأزق الذي يفرض علينا عدم الفصل الحاد بين دوائر العلوم الاجتماعية والتطبيقية في المدرسة وفي الجامعة للحيلولة دون سيطرة الفكرة الواحدة. والخلاصة أن فشل مرسي في الحكم الذي لاحظته هيلاري كلينتون يعود في جزء منه إلى تنشئته على نظرية واحدة في العلم التطبيقي (الهندسة) فأصبح من السهل عليه أن يكون أسير الفكرة الدينية الواحدة التي تعلمها في الجماعة، وأن يعتقد في صحة تطبيقها في المجتمع فيما عرف ب "أخونة الدولة" دون أن يدري أنه بهذه الفكرة الواحدة يصب المواطنين في فكرة واحدة دون مراعاة لاختلاف الدين والمذهب، فضلا عن تجاوزه الوطن لصالح مفهوم "الأمة الإسلامية" الذي تجاوزها الواقع منذ زمن بعيد.