كآخر الديناصورات تتأمل " ماجدة شحاتة هارون " مصيرها ومصير طائفتها بحسب تعبيرها .. وذلك خلال سردها التوثيقي لوضع الطائفة اليهودية في مصر ضمن الجزء الثاني من الفيلم الوثائقي " عن يهود مصر .. نهاية الرحلة " إخراج أمير رمسيس وإعداد وسام وجيه الليثي وإنتاج هيثم الخميسي، والذي اخترق فيه المخرج مغارة المسكوت عنه زمنا حتى كادت تنساه ذاكرة الزمن بوازع من رفضه كل أشكال العنصرية .. وتوقه لمصر التي كانت تسودها روح التسامح والتمازج ، فقد أراد بالفيلم تصحيح الصورة الذهنية والتذكير بماض مختلف يرى أننا لنعرف أين نسير يجب أن نعرف كيف كنا ،فكان فيلمه عن يهود مصر الذين كان يمنع التطرق لهم من قبل والذي عرض جزأه الأول " عن يهود مصر" منذ عامين ضمن فعاليات مهرجان بانوراما الفيلم الأوروبي وأثار جدلا واسعا ليبدأ منذ أيام عرض جزأه الثاني الجديد " نهاية الرحلة " بالإضافة للجزأ الأول في سينما أوديون " زاوية " بإقبال كبير . اتصف الفيلم أو الجزء الأول " عن يهود مصر " الذي يستغرق حوالي 95 دقيقة بالتوثيق التاريخي حيث يرصد أجزاء من حياة الطائفة اليهودية التي كانت تعيش بمصر خلال النصف الأول من القرن العشرين وحتى خروجهم الكبير من مصر بعد العدوان الثلاثي في عام 1956 . ويوثق الفيلم أحداث تلك المرحلة من خلال د. محمد أبو الغار وكتابه " يهود مصر من الازدهار للشتات " والراحل " أحمد حمروش الذي كان عضوا في جماعة الضباط الأحرار . أما الجزء الثاني " نهاية الرحلة "والذي يستغرق حوالي الساعة فيتناول الأحداث بدءا من 1956 وحتى الآن مع التركيز على 1967 كنقطة التحول الأكبر في تاريخ يهود مصر، ويغلب عليه الجانب السردي من قبل الأشخاص الحاليين من خلال الرئيسة الحالية للطائفة اليهودية بمصر والإثني عشر سيدة المنتمين للطائفة واللاتي يشكلن كل ما بقي منها ، فيبدأ الفيلم بجنازة " كارمن وينتشين " الرئيسة السابقة للطائفة في 2013 وإبراز شعائرها والصلاة عليها من المعبد اليهودي ( بشارع عدلي ) ثم تولي المحامية " ماجدة شحاتة هارون " رئاسة الطائفة حتى الآن والتي كانت خير معين لإخراج هذا الفيلم حيث فتحت أمامه كل الأبواب المغلقة للمعابد وخزائن الأسرار اليهودية في مصر ، وقد قامت " ماجدة " بدور الاوي والمحاورفي الفيلم الوثائقي بلهجة موضوعية معتدلة تحقق الاقتراب من واقع يهود مصر الماضي والحالي من خلال مقتطفات سردية أخرى لبعض نساء الطائفة المتبقيات ، وذلك في أماكنهن الطبيعية وأماكن إقامتهن أو بجمع مجموعة منهن في مشاهد اجتماعية حيث تجتمع رئيسة الطائفة بصديقاتها منذ الحضانة ونساء عائلتها مستعيدة معهن في إحدى الجلسات في المنزل ذكريات الماضي والمدرسة وذكرياتهن مع موضة " الميني جيب " ومواقف عائلية تبين امتزاج أعماقهن وذكرياتهن وتاريخهن وتاريخ أسرهن بمصر كجزء من مجتمعها وتاريخها ، تحكي ماجدة وأختها نادية عن والدهما اليساري الشيوعي بحب كبير والذي كان وطنيا معتزا بمصريته وديانته وشيوعيته أيضا وأنه في وقت من الأوقات طولب بأن يسلم إن أراد البقاء بجمعية للشيوعيين فرفض ذلك ، ثم اعتقل عدة أشهر وتعذب عام 1967 بينما هاجر فيه الكثير من اليهود وأسرهم خوفا ، وذلك لأنه كان قد أرسل خطابا إلى الرئيس جمال عبد الناصر عبر فيه عن خوفه من ضرب السد العالي والذي كان محل اعتزاز كبير لديه ، وتحكي " ماجدة " عن إجرائها وهي صغيرة بذلك الوقت إجراءهها عملية " المصران " في غياب والدها كما تحكي عن أختها " منى " التي عرفت من إحدى الصور بالصدف أنها كانت أختا لها .. فتحكي أنها كانت رائعة الجمال لكنها أصيبت بمرض اللوكيميا الذي كان يستدعي سفر والدها بها إلى فرنسا لعلاجها .. ولم يكن أمامه كفرد يهودي في ذلك الوقت إلا خيار البقاء أو السفر بلا عودة فاختار البقاء .. وما تت " منى " . وفي نفس الوقت تحكي ماجدة وكذلك أختها نادية عن احتواء المصريين لهم وعدم اضطهادهم وقت الحرب أو النكسة بل كانوا يشجعوهم على الاختباء معهم وقت الغارات ، كما أنهم علموا برجوع والدها من المعتقل من أصوات الترحاب به في الشارع .. مشيدة هي وأختها بالروح الطيبة التي كانت سائدة بين المصريين ، والجميل الملفت في حديثها اعتدال نبرتها في السرد فلا تلجأ لمبالغة لإثارة التعاطف أو تغفل عدل الحقائق ومن ذلك قولها أنهم لم يتعرضوا لبشاعة أو لتصفية عنيفة كما حدث في أوروبا بل كان أقسى وأقصى ما يحدث هو طلب المغادرة بلا عودة في حالة السفر لأي مكان . وتذكر ماجدة بعضا من أسماء الإثنتي عشرة سيدة منها ( لوسي ، سيلين ، جولدينا ، جوهرة ، ميمي ، والدة ماجدة ، نادية هارون ، ماجدة هارون ، إستر ) لننتقل معها إلى " لوسي" التي تصور معها في دار للمسنين .. فلوسي امرأة عجوز مقعدة تبنتها ماجدة حيث وجدتها ملقاة في شقتها لمدة ثلاثة أيام دون سؤال عنها فأخذتها لهذه الدار وقررت الاعتناء بها ، وتحكي " لوسي " بذاكرة قوية لا يطاوعها ثقل لسانها عن إحدى رحلاتها لإيطاليا ورياضتها وحبها للسينما قديما وعن بعض الأفلام التي كانت تشاهدها ومواقف لها مع الفنان " صالح سليم " كما كانت حريصة على حضور مهرجانات السينما بمفردها حتى وقت قريب مؤكدة رغبتها في العيش والبقاء في مصر . كما تحكي ماجدة عن " ميمي " المقعدة أيضا والتي عندها أمل حتى اليوم أن تسافر أمريكا لمن تحب ودائما ما تحضر حقيبتها ، أما إن سئلت ماجدة عن السفر فلا تذكر أمر المنع بل دائما ما تقول " كان لدينا تذاكر فاحترقت " ، وقد تفقدت ماجدة التي تشغل معظم السرد مع الكاميرا عدة معابد مغلقة معبرة عن حزنها لغياب صوت الصلاة فيها والتي كانت تتصف بكثير من البهجة .. كما تحكي عن تقارب بعض العادات بين اليهود والمسلمين والأقباط وأيضا عن احتواء بعض المعابد لبعض الأسفار والممتلكات اليهودية التي كانت تهدى من الخارج للمعبد ، كما تصفحت سجلا لمواليد الداية " سمحة حمدان " ورخصتها لتستعرض مواليد يعودون لعام 1952 ما بين يهود ومسلمين وأقباط وعرب أما آخر من ولدته هذه الداية فكان في عام 1956 واسمه " شالوم " بمعنى سلام . وتعبر " ماجدة " عن حلمها بتأسيس متحف للتراث اليهودي على غرار كل من القبطي والإسلامي وحلمها بفتح المعابد للزيارة على الأقل وخاصة معبد " ابن ميمون " طبيب صلاح الدين الأيوبي ، كما تفكر في تحويل المعبد المتواجد في منطقة الكوربة إلى مركز ثقافي يهتم بتراث كل الأديان الثلاثة معا وتقديم فقرات دينية كالترانيم أو قراءة القرآن أو الموسيقى العربية والغربية كرسالة للجميع وللعالم . ونتتبع سرد " ماجدة " حتى ينتهي الفيلم بزيارتها وأختها نادية لمقابر اليهود وتفقدها حتى الوصول لقبر والدهما فتضعان عليه الزهور الحمراء وبعض الأحجار متحدثة بحزن وهي تتأمل المقابر عن شعور مماثل لشعور آخر الديناصورات التي توشك على الانقراض وأمنيتها بأن تستطيع توفير أكفان بقية الطائفة وتولي دفنهم .. لينتهي الفيلم بخبر رحيل " نادية " في 6 مارس 2014 وجنازتها وعزائها وإهداء " ماجدة " هذا الفيلم لها .