لم يكد يمر شهر واحد على تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى السلطة حتى فرض ملف القضية الفلسطينية نفسه على جدول أعمال مصر، وأتى العدوان الإسرائيلى على غزة بمثابة الاختبار الأول "الخارجى" للسيسى، الذي سبق أن قال "إن أي دولة عربية تتعرض للعدوان ستجدني مسافة السكة إلى جوارها"، لكن السيسي لم ينجح في الإمتحان العربي الأول له، حيث لم يقنع موقفه من العدوان الإسرائيلي على غزة، حتى أولئك الذين روجوا لترشحه قبل أشهر قليلة، ولم يعد يذكرهم ب"حلم" عبد الناصر الذي لم يتحول إلى حقيقة، بل أظهر موقفا متراجعا في سياق دعم مصر التاريخي للقضية الوطنية العادلة للشعب العربي الفلسطيني. فبينما يتعرض الفلسطينيون في غزة لمذبحة ومجازر صهيونية تحصد أرواح المدنيين بدم بارد، وفي الوقت الذي تطالب فيه الجماهير العربية بفتح معبر رفح لإغاثة الجرحى ومد الفلسطينيين بالاحتياجات الأساسية للحياة، فضلاً عن أن كل الاتفاقيات التى عقدت حول تنظيم عمله المعبر لم تكن مصر طرفا فيها، كنا فقط الطرف المنفذ، الذى يتحمل عار الحصار، وأصبحنا رغما عنا شركاء مع نظام إسرائيل العنصرى، وقد زادت قسوة الحصار بعد هدم الأنفاق، حتى وصل الأمر إلى حد أن يطلب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون وبإلحاح من الرئيس السيسي بعد أربعة أيام من وقوع العدوان، فتح معبر رفح والسماح بمرور المساعدات الطبية والغذائية إلى أهل غزة.. وبدلاً من أن يستجيب النظام المصري لهذه الطلبات فور اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة يوم 8/7/2014، ظلت الدبلوماسية المصرية صامتة، حتى أن خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في ذكرى حرب العاشر من رمضان في اليوم الثاني من حرب غزة، لم يتطرق إليها البتة. لكن إطالة أمد الحرب لأكثر من أسبوع وتصاعد الجرائم الصهيونية، دفع وزارة الخارجية المصرية لإعلان مبادرة للتهدئة بين حماس وإسرائيل، مساء الأحد 13/7، وطالبت المبادرة المصرية الجانبين بوقف جميع الأعمال العدائية (Hostilities) برا وبحراً وجواً، وعدم تنفيذ إسرائيل لعمليات اجتياح برى لغزة أو استهداف المدنيين، وإيقاف حماس لإطلاق الصواريخ، والهجمات على الحدود أو استهداف المدنيين. كان لافتاً هذا التعريف الجديد لأعمال المقاومة الفلسطينية بأنها "عمليات عدائية" وهو تعريف إسرائيلي، مما يستحق التوقف عنده، لأنه يساوي بكل صلافة بين الضحية والجلاد، بين الحمل والذئب، بين العدوان "الإسرائيلي" والدفاع عن النفس، عندما يصف ما وقع ويقع من عدوان على الشعب الفلسطيني في القطاع بأنه "أعمال عدائية".. كما أنه لا يمكن للفصائل الفلسطينية التوقيع على نص يعتبر مقاومتهم المشروعة عملاً عدائياً. بل أكثر من ذلك بدت المبادرة منحازة، لم تلحظ حجم العدوان الإسرائيلي وكوارثه التي سقطت وانهالت على الشعب الفلسطيني، ولم تلحظ إنجازات المقاومة العسكرية حتى لو اعتقد البعض أنها متواضعة ولا تريد لها أن تجني ثمارا سياسية، أولها فك الحصار الظالم منذ سنوات ورفعه عن القطاع، ولذلك رفضت فصائل المقاومة الفلسطينية المبادرة المصرية، لأن الأمور سيان، إنهم يموتون الآن بسرعة، وإذا قبلوا سيموتون ببطء، والمبادرة مجرد ترضية أمام العالم، لن ترفع الحصار ولن توقف آلة القتل. كان الصوت الرسمي المصري ينظر إلى حصاد الدمار ولا يرى حصادا غيره، ليقول للفلسطينيين: ألم نقل لكم؟ ألم نحذركم من طريق المقاومة المسلحة؟. كان لافتاً كذلك، أن حصار قطاع غزة بات في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي يختلف حتى عن عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك من حيث قسوته وصرامته، إذ لا يقف عند حدود إغلاق معبر رفح المعبر الوحيد لقطاع غزة نحو العالم الخارجي أو تدمير الأنفاق، بل تعداهما باتجاه العداء السياسي للعديد من قوى المقاومة الفلسطينية، إلى حد اعتبار حركة المقاومة الإسلامية (حماس) "تنظيما إرهابيا" في قطاع غزة وعموم فلسطين، وصدور حكم قضائي بذلك في بداية شهر مارس الماضي من محكمة القاهرة للأمور المستعجلة بعابدين بحظر جميع أنشطة حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس"، واعتبارها "منظمة إرهابية" في مصر، كما أمرت المحكمة بغلق مقراتها والتحفظ عليها. كان لافتاً أيضاً أن تصريحات السيسي الأولى منذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية ضد القطاع، أتت عبر كلمة ألقاها بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو 1952، (أي بعد نحو أسبوعين من بداية العدوان)، وفيها استخدم السيسى في سابقة مخزية فى حديثه المقتضب عن غزة تعبيرات (الأزمة، الاقتتال، الأطراف، الملفات)، ولم يذكر كلمة "العدوان الإسرائيلى" طوال حديثه. كما رفض ما وصفه ب"المزايدات" على الموقف المصري تجاه غزة، وقال إن "مصر قدمت للقضية الفلسطينية 100 ألف شهيد، وأكثر من ضعفهم من المصابين والجرحى على مدار تاريخ القضية". كما أكد "موقفنا واضح من أهمية إيجاد دولة فلسطينية عاصمتها القدسالشرقية".وأوضح أن "المبادرة المصرية كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار والاقتتال وحفظ الدماء في قطاع غزة". وهنا أخطأ السيسي، لأن الحروب التى خاضتها مصر بعد عام 1948 كانت حروبا وطنية مصرية للدفاع عن التراب المصري، فحرب 56 قادتها إنجلتراوفرنسا ومعهما إسرائيل بهدف إسقاط النظام المصرى بقيادة جمال عبدالناصر، وحرب 67 كانت لكسر مشروع عبد الناصر التحرري وبسبب وقوف عبدالناصر إلى جانب سوريا. وحرب الاستنزاف كانت ضمن جهود إزالة آثار العدوان، وهو الشعار الذى رفعه عبدالناصر آنذاك. أما حرب 73 فإنها استهدفت إنهاء الاحتلال الإسرائيلى لسيناء الذى ظل مستمرا منذ نكسة عام 67. كما أخطأ نظام السيسي حين تغاضى عن موجات وحملات تزييف الوعي الإعلامية التي يقودها إعلاميون مصريون محسوبون على النظام، وخَلَقَ حالة مناهضة للمقاومة في غزة، وحالة مُتشفية بأهلها في أوساط الرأي العام المصري، وهذه الحالة الناقمة على المقاومة وأهل غزة، أو غير المبالية تجاههم، لم تكن موجودة بهذا الحجم في عهد مبارك، وإن بقيت حالة التضامن الشعبية مع قطاع غزة ومع القضية الفلسطينية بشكل عام، موجودة ومتأصلة في الشارع المصري، وهي حالة لن يستطيع إلغاءها أي نظام من حياة مصر وشعبها فقد كان مشهدًا غريبًا أن تشيد القناة "الثانية" في التلفزيون الإسرائيلي بالمذيعة المصرية حياة الدرديري التي طالبت الجيش المصري صراحة بمساعدة جيش الاحتلال الإسرائيلي، للقضاء على حركة المقاومة الإسلامية (حماس)؛ لأنها كانت تساند جماعة الإخوان المسلمين. ولم يكن موقف تلك المذيعة والقناة التي تعمل فيها، وصاحب تلك القناة هو الوحيد بعد أن شنت قنوات وصحف مصرية حملة كبرى للتحريض على حماس، وعلى سبيل المثال وجهت عزة سامي نائب رئيس تحرير صحيفة الأهرام المصرية الشكر لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن كتبت على فيس بوك: "كتر خيرك يا نتانياهو، ربنا يكتر من أمثالك للقضاء على حماس، أس الفساد والخيانة والعمالة الإخوانية" على حد قولها. كما دافع مصري الفقي الذي ترأس الحملة الانتخابية للسيسي في فرنسا في برنامج "النقاش" على قناة "فرانس 24″ الناطقة بالعربية عن إسرائيل مدعيًا إنها لم ترتكب جرائم حرب وحاول تبرير جرائمها بأنها تحارب الإرهاب. وردت عليه الناشطة السياسية المناهضة للصهيونية، ياعيل ليرر: "عيب إنه عربي يحكي هيك". هؤلاء الإعلاميون المحسوبون على النظام لا يدركون أن غزة هى خط دفاعنا الأخير شئنا أم أبينا، وإذا عملنا اليوم لصالح إسرائيل تحت دعوى الانتقام من "حماس" فنحن نعمل ضد وجودنا ومستقبلنا.. ولذلك فلا خيار للنظام المصري سوى: (!) أن تقوم مصر بتقديم شكوى ضد إسرائيل لخرقها القانون الدولي واتفاقيات جنيف بحصار الشعب الفلسطيني، ودعوة الأطراف الموقعة على اتفاقيات جنيف لمساندة موقف مصر، حيث يمكن أن تستند هذه الشكوى إلى أن مصر لا يمكنها أن تراعي التزاماتها تجاه إسرائيل على حساب التزاماتها تجاه المجتمع الدولي، خاصة أن مصر ليست طرفًا في اتفاقية المعابر بل تساعد في تشغيله. (2) فتح معبر رفح وإتاحة حرية الانتقال للأفراد والبضائع وفق المعايير الدولية، وتحمل الأعباء السياسية لهذه الخطوة، وقد يقتضي ذلك السعي لجمع حركتي حماس وفتح للاتفاق وحل الخلاف الداخلي، على الأقل فيما يتعلق بالمعبر. وفي كل الأحوال فإن مصر تستطيع أن تفتح المعبر بغطاء قانوني دولي إنساني دون تحملها أي تبعات قانونية إزاء ذلك، وفي الوقت نفسه تحقيق فك الحصار بشكل منضبط. ولكن هل لدى نظام السيسي الإرادة السياسية لتحقيق ذلك؟.