على سُلم محطة مترو جامعة القاهرة، يجلس طفل لا يتعدى عمره العشر سنوات، إذا نظرت إليه ظننت للوهلة الأولى أنه متسولا؛ نظرا لما يوجد بجواره من أكياس المناديل، وحين تتقدم ناحيته وتتضح لك تلك الأوراق البيضاء التي يضعها على ركبتيه ممسكا بعُلبة الألوان في يده، تشعر كأنك سافرت إلى دولة أوروبية، وكأن "مُعاذ" يأخذك إلى جولة لأرصفة باريس ولندن، حيث الموسيقى والرسم وصفاء الذهن. "معاذ" هو أخ لتسعة أبناء تتولى تربيته جدته، التي ترى أن مصروفات المدرسة هي إحدى الأعباء التي يصعب عليها تحملها، ولذلك اكتفت بأن يدخل المدرسة لعام واحد فقط ثم يكسب قوته من عرق جبينه؛ لذا اشترت له بعض أكياس المناديل وأجلسته بجوارها على السلم المؤدي لباب جامعة القاهرة، وهو مكان مناسب وسوف يكسب تعاطف الطلبة ويجذبهم بابتسامته التي تكشف عن فنان باع كل ما يشتريه أبناء جيله وكسب ألوانه وكراسة الرسم فقط. يجلس معاذ على السلم ويتراص بجواره الفتيات والشباب الذين يرغبون في أن يرسمهم، وهو لا يتوانى عن ضبط جلسة زبائنه لكي يختار زاوية مناسبة يخرج من خلالها لوحة فنية رائعة، فضلا عن توجيهاته للفتيات اللاتي يلبسن ألوانا لا تظهر ملامحهم، فينصحهم بأفضل الألوان التي تبرز ملامح الوجه وتجعل الصورة مفرحة – مثله تماما. يتذكر "معاذ" أسرته التي كانت مكونة من الأب والأم وعشرة أبناء، قائلا إنهم الآن قد انفصلوا وتزوج كل من الأب والأم، وتم توزيع الأطفال على ثلاثة أشخاص؛ فمنهم من ظل مع جدته مثل معاذ وأخته كريمان التي تاهت من جدتها، ولم يعثروا عليها حتى الآن، ومن كانت في سن صغيرة ظل مع الأم، وباقي الأبناء كانوا يمكثون مع زوجة أبيهم، وبسبب الخلافات تسربوا من التعليم ولجئوا إلى التسول وبيع المناديل. الغريب في الأمر أن حاجة هذا الطفل للمال لم تجعله يمد يده، فكل من يبادر بإعطائه جنيها أو حتى أكثر يرفض قائلا: "أنا مش شحات.. ببيع مناديل لو عاوز تشتري"، أما لو أصر طلبة الجامعة على مساعدته، فيكون طلبه الوحيد هو شراء علبة ألوان وورق أبيض أو كراسة رسم كبيرة بدلا من أخذ أي مبلغ. يعلم "معاذ" جيدا أن أي رسام لابد أن يحافظ على أعماله من السرقة، ولذلك لا تخلو صورة رسمها من إمضاءه أسفل الصورة؛ ليعلم الجميع أن "معاذ" هو الذي أخرج هذا العمل الفني، وعن أحلامه في استكمال دراسته فهو يرى أنه لابد أن يكبر أولا ثم يتعلم؛ حتى يتمكن من جمع ما يكفيه من المال لإتمام دراسته، لأن جدته مريضة وتحتاج لعلاج شهري بمبلغ خمسين جنيها، كما أنه يرفض أن يكون عبئا إضافيا عليها. يختتم "معاذ" حديثه بأمنية واحدة وهي أن يصبح ذي شأن في المستقبل القريب وأن يتمكن من دخول جامعة القاهرة التي يجلس على أعتابها منذ قرابة العامين.