في صباح كل عيد كنت أرتدي ملابسي الجديدة وأتأهب للنزهة المعتادة ,تتشابك آيادينا حتي نصل للمكان المحبب إليها حيث يرقد جدي بمقابر(باب النصر) نقرأ الفاتحة ثم تقوم أمي بما يجب أن تفعله من توزيع فطائر الرحمة والبلح وأنواع الفاكهة المختلفة,ثم تتبادل الخالات الحوار والسؤال عن الأحوال على مدى نصف نهار لتعود كل منهن إلى بيتها ,ذكريات الطفولة تختلط دوماً بهذا المشهد الذي تكرر لسنوات عديدة لم تنقطع عنها أمي إلا بوفاة أبي حيث تحولت الزيارة لقبر الزوج الذي تركها في مقتبل العمر لتتحمل بمفردها عناء تربية وتدبير شئوون أسرة كبيرة استطاعت بجرأتها وبساطتها أن تجعل منها أسرة سعيدة مترابطة ,فيكبر الأبناء ويشق كل منهم طريقه وتتزوج البنات ويملأ الأحفاد والأولاد الفراغ الذي تركه الزوج فتصبح الأم والجدة ملتقى الأحباء والمحرك الرئيسي لهذه العائلة الكبيرة ومحور حياتها والبركة التي يلتمس منها الصغار والكبار أبواب الخير والرحمة في السماء. كان رمضان هو أمي وكان العيد هو أمي وكانت كل فرحة أو مناسبة زواج هي أمي التي تحتضن هذه المناسبات بابتسامه المحب للثمرة التي كبرت وترعرعت ترويها المحبة والحنان وحرمان السنين. منذ ثلاث سنوات أصرت أمي على زيارة قبر والدها بعد انقطاع دام 35 عاماً كاملة فذهبت بصحبتها رغم اعتلال صحتها ,ورغم بعد المسافات لم تخطئ المكان وهناك ارتسمت ابتسامة طمأنينه على وجهها وراحت تزور مقابر الأعمام والعمات في المساحة ذاتها وهى تشير (هنا فلان هنا فلانه).شريط الذكريات يعود كأنه بالأمس القريب ,تذكرت جلساتنا وأحاديثنا وطقوسها المعتادة في توزيع صدقات (الرحمة) أفقت من شرودي على كلمات قصيرة (ادفنوني هنا) لم أنزعج من كلماتها فالموت مسألة بعيدة لم أتخيلها على أمي التي لم أفارقها طوال عمري رغم استقلالي وانشغالي بأمور الحياة والأسرة فهناك ركائز راسخة لايتخيل الإنسان خلو الحياة منها. في فجر الرابع من رمضان رحلت أمي في هدوء وهى نائمة على صدري في العربة التي كانت في طريقها للمستشفى بعد أن تعلق بصرها في اتجاهي وأنا أحاول طمأنتها بقرب الوصول لإسعافها توقف القلب قبل الوصول ب 17 دقيقة ثم عاد للحياة بعد الصدمات الكهربائية لكنها كانت قد أسلمت الروح إلى بارئها راضية مرضية أمنيتان تحققتا الأولى كانت لأمي أن تموت دون أن تقع فريسة للمرض وألا تثقل على أولادها في خدمتها وأن تدفن إلى جوار أبيها والثانية كنت أتمناها دون البوح بها ,أن أكون آخر من ينظر إليه أمي وأن تلقى ربها وهى على صدري وقد تحقق ماتمنيناه سوياً ولأن اللحظات رهيبة والدقائق التي مرت كانت بحمل جبل ثقيل فقد خفف الله عنها وعني فلم أعرف أنه الموت ولم أشهد على وجهها علامات الألم والاحتضار لكنها نظرة التسليم والوداع والسلام التي كانت تشق القلب وترجو من الله أن يمنحني فرصة أخيرة ليظل بالعمر بقية. رحلت أمي بسرعة مذهلة وانتقلت من الدار الضيقة إلى الدار الأوسع والأرحب مع الأحباء والأهل ,همست في أذنيها بقدرة من الله تعالي لحظة الوداع الأخير تثبتي ياأمي وتذكري أن الله ربنا والإسلام ديننا ومحمد صلى الله عليه وسلم هو نبينا ورسولنا وشفيعنا ,ولا تنسي ياأمي أن تقرئي أبي وأختي وأهلي السلام وبلغيهم عنا الشوق والوحشة ودعوت اللهم أكرمها في آخرتها كما أكرمتنا في الدنيا. برحيلك ياأمي نادت ملائكة السماء (ماتت التي كنا نكرمك من أجلها) وبموتها أغلق ثاني أبواب الرحمة, لقد كنا نعيش في كنف كرمك وكانت الرحمات تهبط علينا من السماء من أجلك,فيارب أفرغ علينا صبراً وهب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا وارحم أمي وأمهاتنا رحمة واسعة وأدخلها الجنة بغير حساب.