كانت الأوريستيا ومازالت للكاتب أيسخيلوس أروع ما خلفه التراث المسرحي اليوناني القديم ، ومازالت الملهمة والملهبة للفنانين والمبدعين بل والفلاسفة والمؤرخين .. واستلهم منا علماء النفس ما عرف باسم "عقدة إلكترا" الشهيرة .. أجاممنون الملك اليوناني الشهير الذي استطاع قهر طروادة ومحوها من الوجود وسطر أكبر انتصار في التاريخ اليوناني القديم بل والحديث مازال يرويه اليونانيين في ملاحمهم وأغانيهم ليومنا هذا ، هو نفسه من أرسل أثناء المعركة يطلب حضور زوجته كليتمنسترا وابنته البكر العذراء إيفيجنيا للحضور فورا لتزويجها ! وجهزت الأم ابنتها وألبستها فستان زفافها وحين وصلوا فوجئت الفتاة أن ابيها قرر التضحية بها وذبحها قربانا لكي تهب الريح وتحرك السفن ! نعم أجاممنون ذبح ابنته لكي تهب الريح منتشيا ومعتقدا أنه يقوم بعمل وطني لإنقاذ بلاد اليونان وهبت الريح وتحركت السفن وانتصر ، وعاد لبلاده ملكا مظفرا يحمل رايات النصر .. يروي ايسخيلوس في مشهد من أروع المشاهد المسرحية كيف دخل أجامنون قصره، حيث تخرج زوجته مبتسمة ضاحكة في استقباله : "لقد نضبت من أجلك ينابيع دموع عيني الفياضة ، فلم تبق فيها قطرة واحدة ، ولكنك تستطيع أن ترى فيهما كيف أضناهما سهري " يصف أيسخيلوس باسهاب السجاد الأحمر الذي فرشته كليتمنسترا ليسير عليه خيل أجامنون وكيف امتد حتى حمام القصر .. كليتمنسترا التي كانت تقضي الليالي في أحضان عشيقها وابن عم الملك كانت تعد الايام والليالي فعلا منتظرة عودة أجامنون ولكن ليس شوقا له وإنما انتظارا للثأر من قاتل ابنتها الجميلة التي كانت تحلم بزفافها وذهبت للموت بكل قسوة.. قتلت كليتمنسترا زوجها بعد موكبه المهيب واستولى عشيقها على العرش وبين كل هذه المشاعر المتضاربة بين ملك منتصر ضحى بابنته من أجل انتصاره وأم مكلومة بفقدان ابنتها وطامع في العرش لم يكن نتاج ذلك سوى جيل جديد مذهول حائر "الإبن الصغير أوريستيس والإبنة الكترا" .. فر أوريستيس الطفل هاربا خوفا من قتله بعد قتل أبيه واختفى وظلت إلكترا طيلة الوقت فتاة تكره أمها قاتلة أبيها وتعيش على أمل عودة أخيها ليثأر .. ينضج الطفل بعيدا في الغابات ويعود شابا يافعا يملؤه الغضب .. كل مشاعره غضب .. كل ما يدور في باله هو الثأر من أمه التي قتلت أبيه .. وبعد تخطيط طويل يظفر الشاب بأمه ويطعنها ويقتلها ويعلن أخذه بثأر أبيه .. ولكن القصة لم تنتهي فلم يكن الحق والباطل واضحين لدى الشاب فبعد قتله لأمه يبدأ الجزء الثالث من المسرحية حيث تبدأ ربات الإنتقام في مطاردة أوريستيس حتى يبدو كالمجنون.. كان شبح الأم يطارده في كل مكان ، لم يهنأ أوريستيس بنوم قط .. حياته بين الكوابيس والمطاردات .. المفارقة هنا انه كان على أوريستيس الشاب أن يلجأ لأثينا .. أثينا إلهة الحكمة والعقل والوعي .. لانه انطلق من غضبه لا من عقله .. يسافر الشاب للمعبد ويركع أمام أثينا طالبا الرحمة والعفو وأن تنجيه مما هو فيه .. المشهد الأخير تنعقد المحاكمة برئاسة اثينا "الحكمة والعقل" والمحامي المدافع عن المتهم كان أبوللو "الفن والشعر" وتبدأ ربات الإنتقام في سرد أسبابهن للثأر من قاتل أمه وتنقسم المحكمة على نفسها وتتساوى الأصوات ! ولكن ربة الحكمة تعلن تبرئة أوريستيس من التهمة وتعلن تطهيره من ذنبه بعد لجوئه لربة الحكمة. وتنهي المشهد بإعلان المحكمة والقانون وهذا المجلس "هو المحكمة العليا في البلاد" وانتهاء عهد ربات الإنتقام وان قوانين المحكمة هي المرجعية وتوجه خطابا لربات الإنتقام فتظهر في آخر المشهد زعيمتهن قائلة " إن نظاماً جديداً قد ولد اليوم" .. ظلت هذه الثلاثية وهذا المشهد الأخير الأكثر إلهاما وخصوبة وعمقا في تاريخ المسرح اليوناني وظل أيسخيلوس الكاتب الأكثر عمقا في تناول الحواديت .. والجدير بالذكر أن اخر بيت شعر قاله أيسخيلوس قبل أن يموت كان "أي زيوس ، زيوس ، أينما يكون ؛ إذا كان يحب أن يسمع هذا الاسم فسوف أدعوه به. أنقب في البر والبحر والهواء ، فلا أجد في مكان ما ملجأ إلا إليه وحده ، إذا نبذ عقلي ، قبل موته ، عبء هذا الغرور". ، "القانون الذي هو القدر والأب الذي يدرك كل شيء يلتقيان هنا ويصبحان شيئاً واحداً"