ننشر نص تعديل قانون الكهرباء بعد موافقة مجلس الشيوخ    أسعار السمك اليوم الاثنين 22-12-2025 في محافظة قنا    أسعار الفاكهة اليوم الاثنين 22-12-2025 في قنا    تحرك شاحنات القافلة ال99 من المساعدات الإنسانية تمهيدا لدخولها من مصر إلى غزة    ترامب يعلن تعيين حاكم لويزيانا مبعوثا خاصا لأمريكا إلى جرينلاند    البيئة تفحص فيديو متداول لظهور تمساح جديد بمصرف عمريط فى الشرقية    مصر تواصل جهودها المكثفة لاستجلاء موقف المواطنين المصريين المفقودين فى ليبيا    مواقيت الصلاه اليوم الإثنين 22ديسمبر 2025 فى محافظة المنيا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 22-12-2025 في محافظة قنا    نائب وزير الصحة يترأس الاجتماع الأول للجنة تطوير منظومة طب الأسنان    مجلس كلية الطب بجامعة أسيوط يعقد اجتماعه الدوري رقم 799    ألمانيا تعلن تسجيل أكثر من 1000 حالة تحليق مشبوهة للمسيرات فى 2025 .. وتصاعد المخاوف الأمنية    رئيس جامعة القاهرة يجري سلسلة لقاءات رفيعة المستوى بالصين لتعزيز التعاون الأكاديمي والبحثي    ارتفاع أسعار النفط وخام برنت يسجل 60.91 دولارًا للبرميل    خبر هيفرح الملايين| اليوم.. دعوى قضائية لإقرار منحة استثنائية لأصحاب المعاشات    الأرصاد الجوية : أجواء شديدة البرودة وشبورة كثيفة والصغرى بالقاهرة 12 درجة    اليوم.. الحكم على 16 متهما بقضية الهيكل الإداري بالهرم    أهالي "معصرة صاوي" يودّعون أبناءهم.. تشييع جثامين 7 صغار ضحايا "لقمة العيش" بالفيوم    اليوم .. الإدارية العليا تفصل فى 48 طعنا على نتيجة 30 دائرة ملغاة بانتخابات النواب    عزاء الفنانة سمية الألفي بمسجد عمر مكرم اليوم    تعرف علي مواعيد امتحانات الفصل الدراسى الأول لطلاب الصفين الأول والثاني الثانوى بالجيزة    بعد ارتفاعها 116%.. رئيس شعبة المعادن الثمينة يحذر من انكسار سريع لأسعار الفضة وينصح بالذهب    مصرع 16 شخصا فى حادث تحطم حافلة بإندونيسيا    كأس الأمم الإفريقية| اليوم.. جنوب إفريقيا تفتتح مشوارها أمام أنجولا ضمن مجموعة مصر    نيجيريا: تحرير 130 تلميذا وموظفا خطفهم مسلحون من مدرسة الشهر الماضي    نائب رئيس الوزراء الباكستاني ووزير الخارجية التركي يبحثان العلاقات الثنائية    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد اليوم 22 ديسمبر 2025    محمود الليثي يشعل رأس السنة بحفل عالمي في فرنسا ويعيش أقوى فتراته الفنية    ويتكوف: روسيا لا تزال ملتزمة تماما بتحقيق السلام فى أوكرانيا    بحضور أبطاله.. انطلاق العرض الخاص لفيلم «خريطة رأس السنة» في أجواء احتفالية    «المهن التمثيلية» تكشف تطورات الحالة الصحية للفنان إدوارد    لجنة تحكيم أيام قرطاج السينمائية توضح سبب غيابها عن حفل توزيع الجوائز    نقيب المحامين يترأس جلسة حلف اليمين القانونية للأعضاء الجدد اليوم    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 22 ديسمبر 2025 في القاهرة والمحافظات    مفوضى القضاء الإدارى: ادعاءات وجود عوائق أمام تنفيذ مشروع الزمالك قول مرسل    ريهام عبد الغفور: خريطة رأس السنة محطة استثنائية في مسيرتي الفنية    بحضور عضوي مجلس إدارة الأهلي، محمود بنتايك يحتفل بزفافه على سندس أحمد سليمان    السلفية والسياسة: التيه بين النص والواقع.. قراءة في التحولات الكبرى    متحدث الكهرباء: 15.5 مليار جنيه خسائر سرقات واستهلاك غير قانوني    وزير الاتصالات: مصر تقفز 47 مركزًا عالميًا بمؤشر جاهزية التحول الرقمي    أبناؤنا أمانة.. أوقاف بورسعيد تطلق خارطة طريق لحماية النشء من (مسجد لطفي)| صور    تصعيد ديموقراطي ضد ترامب بسبب وثائق إبستين المثيرة للجدل    أمم إفريقيا - محمود صابر: نهدف الوصول لأبعد نقطة في البطولة    خالد الغندور: توروب رفض التعاقد مع محمد عبد المنعم    اعترافات المتهم بقتل زميله وشطر جثمانه 4 أجزاء في الإسكندرية: فكرت في حرق جثته وخشيت رائحة الدخان    إخلاء عاجل لفندقين عائمين بعد تصادمهما في نهر النيل بإسنا    سائق يقتل زوج شقيقته إثر نزاع عائلي على شقة ميراث بالخانكة    أستاذ بالأزهر يوضح فضائل شهر رجب ومكانته في ميزان الشرع    لعبة في الجول – أمم إفريقيا.. شوت في الجول واكسب البطولة بمنتخبك المفضل    بيان عاجل من المتحدث العسكري ينفي صحة وثائق متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي| تفاصيل    الصحة توضح آليات التعامل مع المراكز الطبية الخاصة المخالفة    تامر النحاس: سعر حامد حمدان لن يقل عن 50 مليونا وصعب ديانج يروح بيراميدز    هاني البحيري: يد الله امتدت لتنقذ أمي من أزمتها الصحية    نجاح عملية معقدة لتشوه شديد بالعمود الفقرى بمستشفى جامعة كفر الشيخ    سلوكيات خاطئة تسبب الإصابة بالفشل الكلوي    دعاء أول يوم في شهر رجب.. يزيد البركة والرزق    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 21ديسمبر 2025 فى المنيا    انطلاق الإثارة في أمم إفريقيا 2025.. المغرب يواجه جزر القمر في افتتاح المجموعة الأولى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الرحمن الكواكبي: الاستبداد والدين (2 2)
نشر في البديل يوم 22 - 04 - 2014

نعم، لولا حلم الله لخسف الأرض بالعرب؛ حيث أرسل لهم رسولاً من أنفسهم أسَّس لهم أفضل حكومة أٌسست في الناس، جعل قاعدتها قوله: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) أي كل منكم سلطان عام ومسؤول عن الأمة. وهذه الجملة التي هي أسمى وأبلغ ما قال مشرِّع سياسي من الأولين والآخرين، فجاء من المنافقين من حرَّف المعنى عن ظاهره وعموميته إلى أن المسلم راع على عائلته ومسؤول عنها فقط، كما حرَّفوا معنى الآية : ,وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ- إلى ولاية الشهادة دون الولاية العامة. وهكذا غيروا مفهوم اللغة، وبدَّلوا الدين، وطمسوا على العقول حتى جعلوا الناس ينسون لذة الاستقلال، وعزَّة الحرية؛ بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمة نفسها بنفسها دون سلطان قاهر.
وكأن المسلمين لم يسمعوا بقول النبي عليه السلام : (الناس سواسية كأسنان المشط، فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) ، وهذا الحديث من أصح الأحاديث لمطابقته للحكمة ومجيئه مفسراً الآية : ,إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ- ، فإن الله جل شأنه ساوى بين عباده مؤمنين وكافرين في المكرمة بقوله : ,وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ- ثم جعل الأفضلية في الكرامة للمتقين فقط. ومعنى التقوى، لغة، ليس كثرة العبادة كما صار ذلك حقيقة عرفية غرسها علماء الاستبداد القائلين في تفسير (عند الله) أي في الآخرة دون الدنيا؛ بل التقوى: لغةً، هي الإتقاء أي الابتعاد عن رذائل الأعمال احترازاً من عقوبة الله، فقوله : ,إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ- كقوله إن أفضل الناس أكثرهم ابتعاداً عن الآثام وسوء عواقبها.
وقد ظهر مما تقدم أن الإسلامية مؤسسة على أصول الحرية برفعها كل سيطرة وتحكُّم، بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء، وبحضها على الإحسان والتحابب، وقد جعلت أصول حكومتها: الشورى الأريستوقراطية، أي شورى أهل الحل والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم، وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي، أي الاشتراكي، حسبما يأتي فيما بعد، وقد مضى عهد النبي عليه السلام وعهد الخلفاء الراشدين على هذه الأصول بأتم وأكمل صورها. ومن المعلوم أنه لا يوجد في الإسلامية نفوذ ديني مطلقاً في غير مسائل إقامة شعائر الدين، ومنها القواعد العامة التشريعية التي لا تبلغ مائة قاعدة وحكم، كلها من أجلِّ وأحسن ما اهتدى إليه المشرعون من قبل ومن بعد. ولكن وا أسفاه على هذا الدين الحر، الحكيم، السهل، السمح، الظاهرة فيه آثار الرقي على غيره من سوابقه، الدين الذي رفع الإصر (الإصر: العبء والحمل الثقيل) والأغلال، وأباد الميزة (الميزة: التمايز والفئوية)، والاستبداد، الدين الذي ظلمه الجاهلون فهجروا حكمة القرآن ودفنوها في قبور الهوان، الدين الذي فقد الأنصار الأبرار والحكماء الأخيار فسطا عليه المستبدون والمترشحون للاستبداد، واتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيعاً، وجعلوه آلة لأهوائهم السياسية فضَّيعوا مزاياه وحيَّروا أهله بالتفريع والتوسيع، والتشديد والتشويش، وإدخال ما ليس منه فيه كما فعل قبلهم أصحاب الأديان السائرة, حتى جعلوه ديناً حرجاً يتوهم الناس فيه أن كل ما دوَّنه المتفننون بين دفتي كتاب ينسب لاسم إسلامي هو من الدين، وبمقتضاها أن لا يقوى على القيام بواجباته وآدابه ومزيداته، إِلاَّ من لا علاقة له بالحياة الدنيا؛ بل أصبحت بمقتضاها حياة الإنسان الطويل العمر، العاطل عن كل عمل، لا تفي بتعلم ما هي الإسلامية عجزاً عن تمييز الصحيح من الباطل من تلك الآراء المتشعبة التي أطال أهلها فيها الجدال والمناظرة؛ وما افترقوا إِلاَّ وكل منهم في موقفه الأول يظهر أنه ألزم خصمه الحجة وأسكته بالبرهان؛ والحقيقة أنَّ كلاً منهم قد سكت تعباً وكلالاً من المشاغبة.
وبهذا التشديد الذي أدخله على الدين منافسو المجوس انفتح على الأمة باب التلوُّم على النفس, واعتقاد التقصير المطلق, وأن لا نجاة ولا مخرج ولا إمكان لمحاسبة النفس فضلاً عن محاسبة الحكام المنوط بهم قيام العدل والنظام. وهذا الإهمال للمراقبة, وهو إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود, وبهذا وذاك ظهر حكم حديث: (لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أَو ليستعملن الله عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب) . وإذا تتبعنا سيرة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما مع الأمة, نجد أنهما, مع كونهما مفطورين خير فطرة, ونائلين التربية النبوية, لم تترك الأمة معها المراقبة والمحاسبة ولم تطعهما طاعة عمياء.
وقد جمع بعضهم جملة مما اقتبسه وأخذه المسلمون عن غيرهم وليس هو من دينهم بالنظر إِلى القرآن والمتواترات من الحديث وإجماع السلف الأول فقال:
اقتبسوا من النصرانية مقام البابوية باسم الغوثية, وضاهوا في الأوصاف والأعداد أوصاف وأعداد البطارقة, والكردينالية والشهداء والأساقفة, وحاكوا مظاهر القديسين وعجائبهم, والدعاة المبشرين وصبرهم, والرهبنات ورؤسائها, وحالة الأديرة وبادريتها, والرهبنات ورسومها, والحمية وتوقيتها, وقلدوا رجال الكهنوت والبراهمة في مراتبهم وتميزهم في ألبستهم وشعورهم, ولبس المسابح في الرقاب, وقلدوا الوثنيين الرومانيين في الرقص على أنغام الناي, والتغالي في تطييب الموتى, والاحتفال الزائد في الجنائز وتسريح الذبائح معها وتكليلها وتكليل القبور بالزهور وشاكلوا مراسم الكنائس وزينتها, والبِيَع واحتفالاتها, والترنحات ووزنها, والترنمات وأصولها, وإقامة الكنائس على القبور, وشد الرحال لزيارتها, والإسراج عليها, والخضوع لديها, وتعليق الآمال بسكانها. وأخذوا التبرك بالآثار: كالقدح والحربة والدستار, من احترام الذخيرة وقدسية العكاز, وكذلك إمرار اليد على الصدر عند ذكر الصالحين, من إمرارها على الصدر لأشارة الصليب. وانتزعوا الحقيقة من السر, ووحدة الوجود من الحلول، والخلافة من الرسم، والسقيا من تناول القربان، والمولد من الميلاد، وحفلته من الأعياد، ورفع الأعلام من حمل الصلبان، وتعليق ألواح الأسماء المصدرة بالنداء على الجدران من تعليق الصور والتماثيل، والاستفاضة والمراقبة من التوجه بالقلوب انحناءً أمام الأصنام. ومنعوا الاستهداء من نصوص الكتاب والسنة كحظر الكاثوليك التفهم من الإنجيل، وامتناع أحبار اليهود عن إقامة الدليل من التوراة في الأحكام. وجاؤوا من المجوسية باستطلاع الغيب من الفلك، وبخشية أوضاع الكواكب وباتخاذ أشكالها شعاراً للملك، وباحترام النار ومواقدها. وقلدوا البوذيين حرفاً بحرف في الطريق والرياضة، وتعذيب الجسم بالنار والسلاح، واللعب بالحيات والعقارب وشرب السموم، ودق الطبول والصنوج وجعل رواتب من الأدعية والأناشيد والأحزاب, واعتقاد تأثير العزائم ونداء الأسماء وحمل التمائم, إِلى غير ذلك مما هو مشاهد في بوذيي الهند ومجوس فارس والسند إِلى يومنا هذا. وقد قيل إنه نقله إِلى الإسلامية أمثال جون وست وسلطان علي منلا والبغدادي وحاشية فلان الشيخ وفلان الفارسي, على أن إسناد ذلك إِلى أشخاص معينين يحتاج إِلى تثبيت. ولفقوا من الأساطير والإسرائيليات أنواعاً من القربات, وعلوماً سموها لدنيَّات.
وكذلك يقال عن مبتدعي النصارى من أن أكثر ما اعتبره المتأخرون منهم من الشعائر الدينية حتى مشكلة التثليث لا أصل له فيما ورد عن نفس المسيح عليه السلام؛ إنما هو مزيدات وترتيبات قليلها مبتدع, وكثيرها متَّبع. وقد اكتشف العلماء الآثاريون من الصفائح الحفرية الهندية والآشورية, ومن الصحف التي وجدت في نواويس المصريين الأقدمين, على مآخذ أكثرها. وكذلك وجدوا لمزيدات التلمود وبدع الأحبار أصولاً في الأساطير والآثار والألواح الآشورية, وترقوا في التطبيق والتدقيق إِلى أن وجدوا معظم الخرافات المضافة إِلى أصول عامة الأديان في الشرق الأدنى مقتبسة من الوضعيات المنسوبة لنِحل الشرق الأقصى, وقد كشفت الآثار أن الاستبداد أخفى تاريخ الأديان وجعل أخبار منشئها في ظلام مطبق, حتى إن أعداء الأديان المتأخرين أمكنهم أن ينكروا أساساً وجود موسى وعيسى عليهما السلام, كما شوَّش الاستبداد في المسلمين تاريخ آل البيت عليهم الرضوان؛ الأمر الذي تولد عنه ظهور الفرق التي تشيعت لهم كالإمامية والإسماعيلية والزيدية والحاكمية وغيرهم.
والخلاصة أن البدع التي شوَّشت الإيمان وشوَّهت الأديان تكاد كلها تتسلسل بعضها من بعض, وتتولد جميعها من غرض واحد هو المراد, ألا وهو الاستبعاد.
والناظر المدقق في تاريخ الإسلام يجد للمستبدين من الخلفاء والملوك الأولين, وبعض العلماء الأعاجم وبعض مقلديهم من العرب المتأخرين, أقوالاً افتروها على الله ورسوله تضليلاً للأمة على سبيل الحكمة, يريدون بها إطفاء نور العلم وإطفاء نور الله, ولكن أبى الله إِلاَّ أن يتم نوره؛ فحفظ للمسلمين كتابه الكريم الذي هو شمس العلوم وكنز الحِكَم من أن تمسه يد التحريف وهي إحدى معجزاته لأنه قال فيه: ,إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ- فما مسَّه المنافقون إلاَّ بالتأويل وهذا أيضاً من معجزاته؛ لأنه أخبر عن ذلك في قوله: ,فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ-
وإني أمثِّل للمطالعين ما فعله الاستبداد في الإسلام بما حجر على العلماء الحكماء من أن يفسروا قسمي الآلاء والأخلاق من القرآن تفسيراً مدققاً, لأنهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض الغفَّل السالفين أو بعض المنافقين المقربين المعاصرين, فيكفَّرون فيقتلون. وهذه مسألة إعجاز القرآن, وهي أهم مسألة في الدين لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث, واقتصروا على ما قاله فيها بعض السلف قولاً مجملاً من أنها قصور الطاقة عن الإتيان بمثله في فصاحته وبلاغته, وأنه أخبر عن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون, مع أنه لو فُتح للعلماء ميدان التدقيق وحرية الرأي والتأليف, كما أطلق عنان التخريف لأهل التأويل والحكم, لأظهروا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات من الإعجاز, ولرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن إعجازه بصدق قوله: ,وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ- , ولجعلوا الأمَّة تؤمن بإعجازه عن برهان وعيان لا مجرد تسليم وإذعان.
ومثال ذلك أن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوروبا وأمريكا؛ والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد به التصريح أَو التلميح في القرآن منذ ثلاثة عشر قرناً؛ وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إِلاَّ لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن شاهدة بأنه كلام ربِّ لا يعلم الغيب سواه؛ ومن ذلك أنهم قد كشفوا أن مادة الكون هي الأثير, وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال : ,ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ-, وكشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة والقرآن يقول : ,وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا- إِلى أن يقول: ,وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ-.
وحقَّقوا أن الأرض منفتقة في النظام الشمسي, والقرآن يقول: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}.
وحققوا أن القمر منشق من الأرض, والقرآن يقول: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} , ويقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}.
وحققوا أن طبقات الأرض سبع, والقرآن يقول: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}.
وحققوا أنه لولا الجبال لاقتضى الثقل النوعي أن تميد الأرض, أي ترتجَّ في دورتها, والقرآن يقول: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ}.
وكشفوا أن سرَّ التركيب الكيماوي بل والمعنوي هو تخالف نسبة المقادر وضبها, والقرآن يقول : {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}.
وكشفوا أن للجمادات حياة قائمة بماء التبلور, والقرآن يقول: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}.
وحققوا أن العالم العضوي, ومنه الإنسان, ترقى من الجماد, والقرآن يقول : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}.
وكشفوا ناموس اللقاح العام في النبات, والقرآن يقول: {خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} ويقول: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} ويقول: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}, ويقول: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}.
وكشفوا طريق إمساك الظل, أي التصوير الشمسي, والقرآن يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً}
وكشفوا تسيير السفن والمركبات بالبخار والكهرباء, والقرآن يقول, بعد ذكره الدواب والجواري بالريح : {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}.
وكشفوا وجود المكروب وتأثيره والجدري وغيره من الأمراض, والقرآن يقول {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} أي متتابعة مجتمعة {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} أي من طين المستنقعات اليابس, إِلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية. وبالقياس على ما تقدم ذكره يقتضي أن كثيراً من آياته سينكشف سرها في المستقبل في وقتها المرهون تجديداً لإعجازه بإخباره عما في الغيب ما دام الزمان وما كرَّ الجديدان؛ فلا بد أن يأتي يوم يكشف العلم فيه أن الجمادات أيضاً تنمو باللقاح كما تشير إِلى ذلك آية: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.