نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    صرف 80% من مقررات مايو .. و«التموين» تستعد لضخ سلع يونيو للمنافذ    برلماني: مشروع قانون تطوير المنشآت الصحية يشجع على تطوير القطاع الصحي    بنك مصر يطرح ودائع جديدة بسعر فائدة يصل إلى 22% | تفاصيل    افتتاح أولى دورات الحاسب الآلي للأطفال بمكتبة مصر العامة بدمنهور.. صور    أى انقسام فى إسرائيل؟!    قمة اللا قمة    البحرية الأوكرانية تعلن إغراق كاسحة الألغام الروسية "كوفروفيتس"    ليلة الحسم.. مانشستر سيتي يتفوق على وست هام 2-1 فى الشوط الأول بالدوري الإنجليزي.. فيديو    التعادل الإيجابي يحسم الشوط الأول بين آرسنال وإيفرتون    نهائي الكونفدرالية.. توافد جماهيري على استاد القاهرة لمساندة الزمالك    تشيلسي يحدد بديل بوتشيتينو| هدف برايتون    إصابة 4 أشخاص بطلقات نارية في مشاجرة بقنا    القبض على خادمتين سرقتا فيلا غادة عبدالرازق بالمعادي    عبير صبري تخطف الأنظار في حفل زفاف ريم سامي | صور    نقابة الموسيقيين تكشف مفاجأة بشأن حفل كاظم الساهر في الأهرامات    توافد كبير للمصريين والأجانب على المتاحف.. و15 ألف زائر بالمتحف المصري    الأربعاء.. مراسم دندرة للرسم والتصوير في معرض فني لقصور الثقافة بالهناجر    لمواليد 19 مايو .. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    رجل يعيش تحت الماء 93 يوما ويخرج أصغر سنا، ما القصة؟    4 فيروسات قد تنتقل لطفلك من حمامات السباحة- هكذا يمكنك الوقاية    حقوق الإنسان بالبرلمان تناقش تضمين الاستراتيجية الوطنية بالخطاب الديني    قصف مدفعي.. مراسل القاهرة الإخبارية: الاحتلال يوسع عملياته العسكرية شمال غزة    جامعة العريش تشارك في اللقاء السنوي لوحدة مناهضة العنف ضد المرأة ببورسعيد    تفاصيل تأجير شقق الإسكان الاجتماعي المغلقة 2024    "أهلًا بالعيد".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 فلكيًا في مصر وموعد وقفة عرفات    وزير الصحة: الإرادة السياسية القوية حققت حلم المصريين في منظومة التغطية الصحية الشاملة    الكشف على 927 مواطنا خلال قافلة جامعة المنصورة المتكاملة بحلايب وشلاتين    مصرع شخص غرقًا في ترعة بالأقصر    القومي لحقوق الإنسان يبحث مع السفير الفرنسي بالقاهرة سبل التعاون المشترك    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    ما هو الحكم في إدخار لحوم الأضاحي وتوزيعها على مدار العام؟    «الإفتاء» توضح حكم حج وعمرة من يساعد غيره في أداء المناسك بالكرسي المتحرك    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    إنجاز قياسي| مصر تحصد 26 ميدالية في بطولة البحر المتوسط للكيك بوكسينج    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    أزمة الدولار لا تتوقف بزمن السفيه .. مليارات عيال زايد والسعودية وصندوق النقد تتبخر على صخرة السيسي    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    10 نصائح للطلاب تساعدهم على تحصيل العلم واستثمار الوقت    وزيرة الهجرة: مصر أول دولة في العالم تطلق استراتيجية لتمكين المرأة    إيرادات فيلم السرب تتخطى 30 مليون جنيه و«شقو» يقترب من ال71 مليون جنيه    3 وزراء يشاركون فى مراجعة منتصف المدة لمشروع إدارة تلوث الهواء وتغير المناخ    مساعدون لبايدن يقللون من تأثير احتجاجات الجامعات على الانتخابات    «الرعاية الصحية»: طفرة غير مسبوقة في منظومة التأمين الطبي الشامل    ياسر إبراهيم: جاهز للمباريات وأتمنى المشاركة أمام الترجي في مباراة الحسم    حجازي يشارك في فعاليات المُنتدى العالمي للتعليم 2024 بلندن    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    استاد القاهرة : هناك تجهيزات خاصة لنهائي الكونفدرالية    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    أسعار الدولار اليوم الأحد 19 مايو 2024    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الرحمن الكواكبي: الاستبداد والدين (12)
نشر في البديل يوم 11 - 04 - 2014

تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب. والفريقان مصيبان في حكمهما بالنظر إلى مغزى أساطير الأولين والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة إلى الإنجيل؛ ومخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما، كما هم مخطئون إذا نظروا إلى أن القرآن جاء مؤيداً للاستبداد السياسي. وليس من العذر شيء أن يقولوا: نحن لا ندرك دقائق القرآن نظراً لخفائها علينا في طي بلاغته ووراء العلم بأسباب نزول آياته، وإنما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مستبدِّيهم بالدين.
يقول هؤلاء المحررون: إن التعاليم الدينية، ومنها الكتب السماوية تدعو البشر إلى خشية قوة عظيِمة هائلة لا تدرك العقول كنهها، قوة تتهدَّد الإنسان بكل مصيبة في الحياة فقط، كما عند البوذية واليهودية، أو في الحياة وبعد الممات، كما عند النصارى والإسلام، تهديداً ترتعد منه الفرائص فتخور القوى، وتنذهل منه العقول فتستسلم للخبل والخمول، ثم تفتح هذه التعليمات أبواباً للنجاة من تلك المخاوف, نجاة وراءها نعيم مقيم, ولكن على تلك الأبواب حجاب من البراهمة (البراهمة: طبقة أو فئة رجال الدين عند الهندوس) والكهنة والقسوسة (قس: رتبة دينية مسيحية هي في الأصل بين الأسقف والشماس وتعتمدها البروتستانتية لكل من تكون له رتبة دينية عندها) وأمثالهم الذين لا يأذنون للناس بالدخول ما لم يعظِّموهم مع التذلل والصَّغار ويرزقوهم باسم نذر أو ثمن غفران, حتى إن أولئك الحجاب, في بعض الأديان, يحجزون فيما يزعمون لقاء الأرواح بربِّها ما لم يأخذوا عنها مكوس (مكوس: مال يأخذه من يتولون السلطة على الأسواق، أشبه بضريبة أو رسم يُجبى) المرور إلى القبور وفدية الخلاص من مطهر الأعراف. وهؤلاء المهيمنون على الأديان كم يرهبون الناس من غضب اللّه وينذرونهم بحلول مصائبه وعذابه عليهم, ثم يرشدونهم إلى أن لا خلاص ولا مناص لهم إِلاَّ بالالتجاء إِلى سكان القبور الذين لهم دالة بل سطوة على اللّه فيحمونهم من غضبه.
ويقولون إن السياسيين يبنون, كذلك, استبدادهم على أساس من هذا القبيل, فهم يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي والتشامخ الحسِّي, ويذللونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلوهم خاضعين لهم, عاملين لأجلهم, يتمتعون بهم كأنهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون.
ويرون أن هذا التشاكل في بناء ونتائج الاستبدادين, الديني والسياسي, جعلهما في مثل فرنسا خارج باريس مشتركين في العمل كأنهما يدان متعاونتان, وجعلهما في مثل روسيا مشتبكين في الوظيفة كأنهما اللوح والقلم يسجلان الشقاء على الأمم.
ويقررون أن هذا التشاكل بين القوتين ينجرُّ بعوام البشر, وهم السواد الأعظم, إِلى نقطة أن يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحق وبين المستبد المطاع بالقهر, فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التشابه في استحقاق مزيد من التعظيم, والرفعة عن السؤال وعدم المؤاخذة على الأفعال, بناء عليه لا يرون لأنفسهم حقاً في مراقبة المستبد لانتفاء النسبة بين عظمته ودناءتهم, وبعبارة أُخرى يجد العوام معبودهم وجبَّارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات, وهم هم, ليس من شأنهم أن يفرِّقوا مثلاً بين (الفعال المطلق), والحاكم بأمره, وبين (لا يُسأل عمَّا يفعل) وغير مسؤول, وبين (المنعم) وولي النعم, وبين (جلَّ شأنه) وبين جليل الشأن. بناء عليه يعظمون الجبابرة تعظيمهم للّه, ويزيدون تعظيمهم على التعظيم للّه لأنه حليم كريم ولأن عذابه آجل غائب, وأما انتقام الجبابرة فعاجل حاضر. والعوام, كما يقال, عقولهم في عيونهم, يكاد لا يتجاوز فعلهم المحسوس المشاهد, حتى يصحَّ أن يقال فيهم: لولا رجاؤهم باللّه وخوفهم منه فيما يتعلق بحياتهم الدنيا لما صلوا ولا صاموا, ولولا أملهم العاجل لما رجحوا قراءة الدلائل والأوراد على قراءة القرآن, ولا رجحوا اليمين بالأولياء المقربين كما يعتقدون على اليمين باللّه.
وهذه الحال هي التي سهلت, في الأمم الغابرة المنحطة, دعوى بعض المستبدين الألوهية على مراتب مختلفة حسب استعداد أذهان الرعية, حتى يقال إنه ما من مستبدٍّ سياسي إِلى الآن إِلاَّ ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها اللّه, أو تعطيه مقام ذي علاقة مع اللّه, ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خَدَمة الذين يعينونه على ظلم الناس باسم اللّه, وأقل ما يعينون به الاستبداد تفريق الأمم إِلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضاً, فتتهاتر قوة الأمة ويذهب ريحها فيخلو للاستبداد ليبيض ويفرِّخ, وهذه سياسة الإنكليز في المستعمرات لا يؤيدها شيء مثل انقسام الأهالي على أنفسهم وإفنائهم بأسهم بينهم بسبب اختلافهم في الأديان والمذاهب.
ويعللون أن قيام المستبد من أمثال (أبناء داود) و(قسطنطين) في نشر الدين بين رعاياهم, وانتصار مثل (فيليب الثاني) الإسباني و(هنري الثامن) الإنكليزي للدين حتى بتشكيل مجالس (إنكيزيسيون) وقيام الحاكم الفاطمي والسلاطين الأعاجم في الإسلام بالانتصار لغلاة الصوفية وبنائهم لهم التكايا, لم يكن إِلاَّ بقصد الاستعانة بممسوخ الدين وببعض أهله المغفلين على ظلم المساكين, وأعظم ما يلائم مصلحة المستبد ويؤيدها أن الناس يتلقون قواعدَه وأحكامَه بإذعان بدون بحث أَو جدال, فيودون تأليف الأمة على تلقي أوامرهم بمثل ذلك, ولهذا القصد عينه كثيراً ما يحاولون بناء أوامرهم أَو تفريعها على شيء من قواعد الدين.
ويحكمون بأن بين الاستبدادين, السياسي والديني, مقارنةً لا تنفك متى وُجد أحدهما في أمة جرَّ الآخر إليه, أَو متى زال زال رفيقه, وإن صلح, أي ضعف أحدهما, صلح, أي ضعف الثاني. ويقولون إن شواهد ذلك كثيرة جداً لا يخلو منها زمان ولا مكان. ويبرهنون على أن الدين أقوى تأثيراً من السياسة إصلاحاً وإفساداً, ويمثلون بالسكسون, أي الإنكليز والهولنديين والأميركان والألمان, الذين قبلوا البروتستينية, فأثر التحرير الديني في الإصلاح السياسي والأخلاق أكثر من تأثير الحرية المطلقة السياسية في جمهور اللاتين, أي الفرنسيين والطليان والإسبانيول والبرتغال. وقد أجمع الكتاب السياسيون المدقِّقون, بالاستناد على التاريخ والاستقراء, من أن ما مِِن أمة أَو عائلة أَو شخص تنطَّع في الدين, أي تشدد فيه, إلاَّ واختل نظام دنياه وخسر أولاه وعقباه.
والحاصل أن كل المدققين السياسيين يرون أن السياسة والدين يمشيان متكاتفين, ويعتبرون أن إصلاح الدين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السياسي.
وربما كان أول من سلك هذا المسلك, أي استخدم الدين في الإصلاح السياسي, هم حكماء اليونان, حيث تحيَّلوا على ملوكهم المستبدين في حملهم على قبول الاشتراك في السياسة بإحيائهم عقيدة الاشتراك في الألوهية, أخذوها عن الآشوريين ومزجوها بأساطير المصريين بصورة تخصيص العدالة بإله والحرب بإله والأمطار بإله, إلى غير ذلك من التوزيع, وجعلوا لإله الآلهة حقَّ النظارة عليهم, وحق الترجيح عند وقوع الاختلاف بينهم. ثم بعد تمكن هذه العقيدة في الأذهان, بما أُلبست من جلالة المظاهر وسحر البيان, سهل على أولئك الحكماء دفعهم الناس إِلى مطالبة جبابرتهم بالنزول من مقام الانفراد, وبأن تكون إِدارة الأرض كإدارة السماء؛ فانصاع ملوكهم إلى ذلك مكرهين. وهذه هي الوسيلة العظمى التي مكنت اليونان أخيراً من إقامة جمهوريات أثينا وأسبارطة، وكذلك فعل الرومان، وهذا الأصل لم يزل المثال القديم لأصول توزيع الإدارة في الحكومات الملكية والجمهوريات على أنواعها إِلى هذا العهد.
إنما هذه الوسيلة, إي التشريك, فضلاً عن كونها باطلة في ذاتها, نتج عنها أخيراً ردُّ فعل أضرَّ كثيراً, وذلك أنها فتحت للمشعوذين, من سائر طبقات الناس, باباً واسعاً لدعوى شيء من خصائص الألوهية كالصفات القدسية والتصرفات الروحية, وكان قبل ذلك لا يتهجم على مثلها غيرُ أفراد من الجبابرة كنمرود إبراهيم وفرعون موسى ثم صار يدَّعيها البرهمي والبادري والصوفي. ولملائمة هذه المفسدة لطباع البشر في وجوه كثيرة, وليس بحثنا هذا محلها, انتشرت وعمت وجندت جيشاً عرمرماً يخدم المستبدين.
وقد جاءت التوراة بالنشاط، فخلصتهم من خمول الاتكال بعد أن بلغ فيهم أن يكلِّفوا الله ونبيه يقاتلان عنهم, وجاءتهم بالنظام بعد فوضى الأحلام, ورفعت عقيدة التشريك مستبدلة مثلاً أسماء الآلهة المتعددة بالملائكة, ولكن لم يرضَ ملوك آل كوهين بالتوحيد فأفسدوه. ثم جاء الإنجيل بسلسبيل الدعة والحِلْم فصادف أفئدة محروقة بنار القسوة والاستبداد, وكان أيضاً مؤيداً لناموس التوحيد, ولكن لم يقوَ دعاته الأولون على تفهيم تلك الأقوام المنحطة, الذين بادروا لقبول النصرانية قبل الأمم المترقية, أن الأبوة والبنوة صفتان مجازيتان يعبَّر بهما عن معنى لا يقبله العقل إِلا تسليماً؛ كمسألة القدر تلك التي ورثت الإسلامية التفلسف فيها عن أديان الهنود وأوهام اليونان. ولهذا تلقت تلك الأمم الأبوة والبنوة بمعنى توالد حقيقي لأنه أقرب إِلى مداركهم البسيطة التي يصعب عليها تناول ما فوق المحسوسات, ولأنهم كانوا قد ألفوا الاعتقاد في بعض جبابرتهم الأولين أنهم أبناء الله, فكبر عليهم أن يعتقدوا في عيسى عليه السلام صفة هي دون مقام أولئك الملوك. ثم لما انتشرت النصرانية ودخلها أقوام مختلفون, تلبَّست ثوباً غير ثوبها, كما هو شأن سائر الأديان التي سلفتها, فتوسعت برسائل بولس ونحوها فامتزجت بأزياء وشعائر وثنية للرومان والمصريين مضافة على شعائر الإسرائيليين وأشياء من الأساطير وغيرها, وأشياء من مظاهر الملوك ونحوها. وهكذا صارت النصرانية تعظِّم رجال الكهنوت إِلى درجة اعتقاد النيابة عن الله والعصمة عن الخطأ وقوة التشريع, ونحو ذلك مما رفضه أخيراً البروتستان, أي الراجعون في الأحكام لأصل الإنجيل.
ثم جاء الإسلام مهذِّباً لليهوديَّة والنصرانيَّة, مؤسَّساً على الحكمة والعزم, هادماً للتشريك بالكلية, ومحكِماً لقواعد الحرية السياسية المتوسطة بين الديموقراطية والأريستقراطية؛ فأسَّس التوحيد, ونزع كل سلطة دينية أَو تغلبيَّة تتحكم في النفوس أَو في الأجسام, ووضع شريعة حكمة إجمالية صالحة لكل زمان وقوم ومكان, وأوجد مدنيَّة فطريَّة سامية, وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الراشدين التي لم يسمح الزمان بمثال لها بين البشر حتى ولم يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف؛ إِلاَّ بعض شواذ كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العباسي ونور الدين الشهيد. فإن هؤلاء الخلفاء الراشدين فهموا معنى ومغزى القرآن النازل بلغتهم وعملوا به واتخذوه إماماً, فأنشؤوا حكومة قضت بالتساوي حتى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمة في نعيم الحياة وشظفها, وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة وروابط هيئة اجتماعية (اشتراكية) لا تكاد توجد بين أشقاء يعيشون بإعالة أب واحد وفي حضانة أم واحدة, لكل منها وظيفة شخصية, ووظيفة عائلية ووظيفة قومية. على أن هذا الطراز السامي من الرياسة هو الطراز النبوي المحمَّدي, لم يخلفه فيه حقاً غير أبي يكر وعمر ثم أخذ بالتناقص, وصارت الأمة تطلبه وتبكيه من عهد عثمان إِلى الآن, وسيدوم بكاؤها إِلى يوم الدين إذا لم تنتبه لاستعواضه بطراز سياسي شوري؛ ذلك الطراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب؛ تلك الأمم التي, لربما يصح أن نقول, قد استفادت من الإسلام أكثر مما استفاد المسلمون.
وهذا القرآن الكريم مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتساوي حتى في القصص منه؛ ومن جملتها قول بلقيس, ملكة سبأ من عرب تبَّع, تخاطب أشراف قومها: ,قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ-.
فهذه القصة تعلِّم كيف ينبغي أن يستشير الملوك الملأ, أي أشراف الرعية, وأن لا يقطعوا أمراً إِلاَّ برأيهم, وتشير إِلى لزوم أن تحفظ القوة والبأس في يد الرعية, وأن يخصص الملوك بالتنفيذ فقط, وأن يكرموا بنسبة الأمر إليهم توقيراً, وتقبِّح شأن الملوك المستبدين.
ومن هذا الباب أيضاً ما ورد في قصة موسى عليه السلام مع فرعون في قوله تعالى: , قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ- أي قال الأشراف بعضهم لبعض: ماذا رأيكم؟ (قالوا) خطاباً لفرعون وهو قرارهم: ,قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيم- ثم وصف مذاكراتهم بقوله تعالى: ,فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم- أي رأيهم ,بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى- أي أفضت مذاكراتهم العلنية إلى النزاع فأجروا مذاكرة سرية طبق ما يجري إلى الآن في مجالس الشورى العمومية.
بناء على ما تقدم لا مجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد مع تأسيسها على مئات من أمثال هذه الآيات البينات التي منها قوله تعالى : ,وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر- أي في الشأن، ومن قوله تعالى : ,يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ- أي أصحاب الرأي والشأن منكم، وهم العلماء والرؤساء على ما اتفق عليه أكثر المفسرين، وهم الأشراف في اصطلاح السياسين. ومما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى :,وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ- أي ما شأنه، وحديث (أميري من الملائكة جبريل) أي مشاوري.
وليس بالأمر الغريب ضياع معنى ,وَأُوْلِي الأَمْرِ- على كثير من الأفهام بتضليل علماء الاستبداد الذين يحرِّفون الكلم عن مواضعه، وقد أغفلوا معنى قيد ,مِنكُمْ- أي المؤمنين، منعاً لتطرق أفكار المسلمين إلى التفكير بأن الظالمين لا يحكمونهم بما أنزل الله، ثم التدرج إلى معنى آية ,إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ- أي التساوي، ,وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ- أي التساوي؛ ثم ينتقل إلى معنى آية : ,وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ-. ثم يستنتج عدم وجوب طاعة الظالمين وإن قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعاً للفتنة التي تحصد أمثالهم حصداً. والأغرب من هذا جسارتهم على تضليل الأفهام في معنى (أمر) في آية : ,وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا- ، فإنهم لم يبالوا أن ينسبوا إلى الله الأمر بالفسق...تعالى الله على ذلك علواً كبيراً... والحقيقة في معنى (أمرنا) هنا أنه بمعنى أمرنا بكسر الميم أو تشديدها أي جعلنا أمراءها مترفيها ففسقوا فيها (أي ظلموا أهلها) فحق عليهم العذاب أي (نزل بهم العذاب).
والأغرب من هذا وذاك أنهم جعلوا للفظة العدل معناً عرفياً وهو الحكم بمقتضى ما قاله الفقهاء حتى أصبحت لفظة العدل لا تدل على غير هذا المعنى، مع أن العدل لغةً التسوية؛ فالعدل بين الناس هو التسوية بينهم، وهذا هو المراد في آية : ,إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ-، وكذلك القصاص في آية : ,وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ- المتواردة مطلقاً، لا المعاقبة بالمثل فقط على ما يتبادر إلى أذهان الأُسَراء الذين لا يعرفون للتساوي موقعاً في الدين غير الوقوف بين يدي القضاة.
وقد عدَّد الفقهاء من لا تقبل شهادتهم لسقوط عدالتهم، فذكروا حتى من يأكل ماشياً في الأسواق؛ ولكن شيطان الاستبداد أنساهم أن يفسٌّقوا الأمراء الظالمين فيردٌّوا شهاداتهم. ولعل الفقهاء يُعذرون بسكوتهم هنا مع تشنيعهم على الظالمين في مواقع أُخرى، ولكن ما عذرهم في تحويل معنى الآية : ,وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ- إلى أن هذا الفرض هو فرض كفاية لا فرض عين؟ والمراد منه سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض؛ لا إقامة فئة تسيطر على حكامهم كما اهتدت إلى ذلك الأمم الموافقة للخير؛ فخصصت منها جماعات باسم مجالس النواب وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية: السياسية والمالية والتشريعية، فتخلَّصوا بذلك من شآمة الاستبداد. أليست هذه السيطرة وهذا الاحتساب بأهم من السيطرة على الأفراد؟ ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا، وعدوا كل معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين؟! [بل اعتبر بعض المعاصرين الخارجين عن إمام عدلهم المزعوم مستحقين لحد الحرابة وهو شيء لم يقله أحد من قبل].
اللهم إن المستبدين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت، فلا حول ولا قوة إِلاَّ بك!
كذلك ما أعذر أولئك الصوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياتهم أن يقولوا: لا يكون الأمير الأعظم إلا ولياً من أولياء الله، ولا يأتي أمراً إلا بإلهام من الله، وإنه يتصرف في الأمور ظاهراً، ويتصرف فيها قطب الغوث باطناً! ألا سبحان الله ما أحلمه!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.