كانَ المساءُ وقتهُ المفضَّلَ للحكي، ولم نكن نعرف السبب. الغريب أيضاً أنهُ كانَ يجهزُ نفسه للحكي كأنه يتجهزُ لامرأةٍ من زمن العثمانيين. يستَحِمّ، يلبسُ ملابس نظيفة وأنيقة، يتعطُّر ويضعُ البخور وهو يحكي. يُروي بينَ عجائزنا أنَّ جدتهُ كانت الحكاء الأعظم في قريتنا، حضرت جدتهُ الأحداثَ الكبري منذُ سقوط الامبراطورية، وشجار الدول الكبري علي ما تبقي من لحمها، وصول الجيش إلي السلطة، الديكتاتوريات العديدة التي مرت ببلادنا. جدتهُ كانت تحكي وتحكي وتحكي حتي ينام الجميع. يذكر أن الكبار كانوا يسمعون جدته مثلهم مثل الصغار، كانت جدتهُ تمتلكُ طريقةَ حكي لم نجدها عند بقية الحكائين، يذكرُ خالي الذي عاصرها طفلاً. حسب ما هو متداول، دخلَ في حالة اعتزال للخلق جميعاً، بعدَ وفاةِ جدته. حاولوا أن يعوضوه، قرئوا لهُ ألف ليلة وليلة والأغاني لأبي الفرج، حتي أنهم استأجروا حكاءً فارسياً يحكي لهُ الشاهنامة، تعبَ أبوه ليصل إلي ترجمة الأوديسة وحكيت لهُ أيضاً، لكنهُ كانَ بمرور الوقت يعتزل الناس ويعتزلهم أكثر ويضمر جسده. في يومٍ غير معلوم التاريخ، خرجَ من عزلتهِ ليحكي، نهراً من الحكايا لا ينضب، الحقيقة أنه لم ينضب أيضاً. حتي أن خالي الذي قارب المائة يجلسُ معنا ليسمعه ، مرةً من المرات قال : لقد تفوقَ علي جدته. في المساء يجتمعُ الصغار، في البداية كانَ يحكي عن العجوز التي ماتت ولم تترك ابنةً ليتزوجها الأمير، الذي انتحرَ من كثرةِ حُبِّه لها. عن الفتاةِ الخجولة التي انسابت كالنَّهرِ في قلبٍ شابٍ أنيقٍ وسيم، احتضنها ذاتَ يومٍ ولم يتكرر الحضنْ، حكي عن قبلتها الأولي، التي طبعتها ذات غفلةٍ علي خدّهِ الأيسر. حينَ صارَ في الأربعين، صارت حكاياتهُ أكثرَ حزناً، أعمقَ أثراً وأرقّ، حكي يوماً عن الفتي المعذبَ الذي لم يستطع أن يجتازَ العشرينَ رغم كونه فوق الأربعين الآنْ. أوقفتهُ قبلتها عندَ سنٍّ لم يتخطاها، الحضنُ الأولُ الأخير أوقفهُ في الزمن نفسه، بعدَ القبلةِ بيومين. حكي أكثر عن الفراشة التي كانت تطيرُ بلا وجهة أو حنين. تطيرُ بلا وطن. كانَت أحياناً عيناهُ تفيضانِ بدمعٍ كالحكايا، وهو يحكي ينتحبُ أحياناً، تأخذُ الجميعَ رهبةً وجلال، ينتظرون حتي يعتدل حاله، أو يقومون ويتركونه آملينَ أن يعودَ إلي الحكاية غداً. مرةً حكَّي عن النوارسْ، كيفَ تذهب للشواطئِ والمرافئ، البياضَ الذي يكتنفها والرقة، الأناقة في وقفتها. تميزت النوارس عندهُ بحميميةٍ خاصَّة، مرَّةً حكي عن الملك الذي رأي في المنامِ نورساً أبيضاً يطيرُ بلا وجهة، حتَّي حطَّ علي مرفأ مدينته، في آخر الحُلم ماتَ النورسْ علي كَفَّيه. بعدَ ليالٍ كانتْ ابنته، الأميرة سلمي، ظلت تجري وراء أحد الخدم من بلادِ البشكنش، أحبتهُ ذاتَ مساء والقمرُ شاحب، طردهُ أبوها من القصر، فراحت تبحث عن حبيبها من مكانٍ إلي مكان، وأبوها يبحثُ عنها. وجدها ذاتَ ليلةٍ علي شاطئِ النَّهرِ، ميتة. (حكي بصوتٍ منخفض أنها ماتت بسمٍ شربته) حينَ جاوزَ السَّبعين، حَكَي عن الفتَّي الذي صارَ عجوزاً فجأةً، لفرطِ المحبةِ والوجع، حكَي عن جنودٍ تتصارع، وتتقاتل، وتموت جوعاً أو جرَّاءَ إصابةٍ قوية، ولا يعرفونَ لماذا يحاربون. حكَي عن العصفور الذي ماتَ حزناً علي وفاةِ عصفورته. عن طفلٍ صغير، أحبَّ جارته الرقيقة كنورسٍ، وظلَّ يحوطها بعنايةِ الأطفال، قبلها من يدها وهي صغيرة، وعندما ذهبتْ، رسمها علي قلبه، وظلَّ يقبلها كلَّ يومٍ مرتينْ، ويحتضنها كلَّ مساءْ، وينامانِ معاً علي مرفئها، وريشاتها تهدهدهُ في المنام، في آفاقٍ رحيبة.