ليس مهما ما إذا كان العمل الأخير لابراهيم أصلان حجرتان وصالة الصادر عن دار الشروق متتالية منزلية كما اختار هو, أو رواية أو قصصا قصيرة أو نصا مفتوحا علي كل الاحتمالات, أو متتالية موسيقية, فحجرتان وصالة كل هذا.إنها احدي الذري التي بلغها الكاتب بعد رحلة حافلة منذ مجموعتهالفاتنة التي لايبليها الزمن بحيرة المساء1971, وضمت قصصا مكتوبة في منتصف الستينيات وحتي عمله قبل الأخير شيء من هذا القبيل, فهي رحلة حافلة حقا اخلص خلالها للكتابة فمنحته أسرارها ومنحها عمره. وعلي الرغم من أن حجرتان وصالة لاتضم سوي شخصيتين رئيسيتين هما الأستاذ خليل الذي أحيل إلي المعاش فزوجته الحاجة, وبضع شخصيات قليلة جدا, إلا أن أصلان صاغ دراما هائلة تمور بالحياة وتتفجر بالعواطف الانسانية, داخل شقة صغيرة لم يغادرها الاستاذ خليل إلا مرتين, الاولي عندما نقل الي المستشفي بسبب ازمة قلبية, والثانية عندما وقف في سرادق العزاء بعد ان ماتت زوجته الحاجة. وعلي الرغم أيضا من ثوابت أصلان,مثل حرصه علي الصوت الخفيض وابتعاده الصارم عن الغنائية واكتفائه بالاشارات البعيدة وعدم تورطه العاطفي مع شخوصه..علي الرغم من ذلك إلا أن الكاتب صاغ بمهارة واقتدار تلك الدراما المتفجرة لبطل من زماننا هو الاستاذ خليل. حكاية الاستاذ خليل حكاية بسيطة جدا: رجل أحيل الي المعاش, فينتقل بين حجرة وأخري, وقد يتبادل كلمات قليلة مع زوجته الحاجة, أو يستقبل ابنيه وزوجتيهما, أو يتحدث حديثا عابرا مع أحد الجيران, حتي تفارقه الحاجة وترحل, فيعاود تنقله بين حجرة وأخري, وفي السطور الأخيرة من هذا العمل الفاتن الذي يخطف الروح حقا, يرسل الأستاذ خليل أحد الصبية ليشتري له فولا للافطار..تلك هي الحكاية البالغة البساطة حكاية مروية بضمير الغائب عبر28 فصلا قصيرا تنساب مثل متتالية موسيقية,عابثة أحيانا, وساخرة أحيانا أخري, يقهر أصلان الجهامة والموت والميلودراما والغنائية المنهنهة بالعبث والسخرية, فالكاتب يمتلك حسا كوميديا راقيا, حتي حادثة موت الحاجة لابد أن تجعل القاريء ينفجر في الضحك بصوت عال, بدلا من البكاء والصراخ,ففي منتصف المتتالية تقريبا, كانت الحاجة جالسة علي الفراش في حجرتها بينما الأستاذ خليل يتفرج علي التليفزيون في الصالة, وعندما دق جرس التليفون في الفيلم المعروض أمام الأستاذ خليل قالت الحاجة: حد يرد علي التليفون ياولاد والأستاذ خليل رزي عباس فارس يقوم كمن يلبي نداءها ويضبط الطربوش علي دماغه ويرد علي التليفون الموجود علي المكتب البعيد, وهو ضحك واتجه الي الحجرة لكي يخبرها أن عباس فارس سمع كلامها ورد علي التليفون, ولما وقف في فتحة الباب وجدها في العتمة الخفيفة وهي هكذا, اقترب منها وتراجع مسرعا وراح يجري علي سلالم البيت بلحيته النابتة البيضاء وينادي علي الجدرانيظل الأستاذ خليل طوال الصفحات التالية يروي حكاية موت الحاجة, فيكاد يتحرر من الموت ذاته بتلك الحكاية العبثية الواقعية تماما, ويسقط الموت من عليائه وجهامته لصالح الحياة بطبيعة الحال.والحقيقة أن الحس الكوميدي, العبثي في احيان كثيرة, يتسلل وينساب مترقرقا في نسيج هذا العمل الفاتن,والأستاذ خليل في المساء: موقف في مدخل السرادق الذي أقاموه في الحي القديم والي جواره ابنه الكبير وابنه الصغير واشقاؤه ومن تبقي من أصدقاء صباه, وهم مالبثوا أن أخذوه من تحت ذراعيه وهو يتطوح ثم يمسك نفسه وأجلسوه علي الكرسي لأنه تعب من الوقفة طيلة النهار وأحضروا له سندوتش كبدة من عند زغلول بائع السمين ولكنه رفض وقال إنه سيجلس فقط.وعندما جلس ظل صامتا لفترة ثم حكي لمن يجاوره أنها كانت تطلب منه أن يرد علي التليفون مع أن التليفون الذي ضرب كان في الفيلم وليس في الصالة. يواجه الاستاذ خليل الحياة وحيدا لكن الكاتب لايبكي مع الأستاذ خليل بل يتوقف معه هنا وهناك عند معضلات الحياة الكبري: كيف يدخل الخيط في الابرة مثلا, أو كيف ينجو من الاختناق لأنه ينسي البراد دائما علي البوتاجاز المشتعل حتي تكاد شقته تحترق, أو يستقبل زائرا من الجيران لايكاد يعرفه, وجاء خصيصا ليخبر الأستاذ خليل أن الناس اللي بتشتغل في جنينة الحيوانات تأكل الحمير المخططة والثعالب أو يحاول اقناع الأطباء بالموافقة علي أن يجروا اليه أشعة مقطعية علي المخ لأن فكرته عن هذه الأشعة أنها مهمة جدا! أو يحكي عن مغامراته مع طاقم الأسنان أو يتوجه مع أحد أصدقائه ليشاهد المليون ونصف المليون جنيه مع أحد أقرباء صديقه, وهو مبلغ حصل عليه الأخير عندما تقرر ضم قطعة أرض صغيرة كان يمتلكها الي كردون المباني أو يذهب مع صديق آخر لحضور فرح ابن احد اصدقائهما, أو يكتشف بالمصادفة أن إحدي ساقية صارت أطول من الأخري عندما مدهما أمامه وهما عاريتان ووجد ان اليمني تسبق الأخري قليلا!!وفي لحظة من اللحظات يترك الأستاذ خليل شقته الجديدة التي كان يعيش فيها مع الحاجة قبل رحيلها ويعود الي شقته القديمة التي شهدت سنوات شبابه, فيلاحظ أن الزبالة زادت,والذين تركهم صبيانا صاروا شبابا يقفون علي النواصي يدخنون البانجو ويتعاطون البرشام..هذه الدراما الانسانية هي شعر الحياة اليومية في حقيقة الأمر,شعر الحياة اليوميةعندما يتخفف من المجاز وبلاغة الصوت العالي الكاذبة,هي التفاصيل الدقيقة المتناثرة حسبما حاولت أن أوضح في السطور السابقة, هي هذه التراجيديا التي صاغها باقتدار كاتب خبر الدنيا وعرفها, ووضع خبرته تلك موضع المساءلة ربما ليختبرها أويتأملها, مخلصا في كل الأحوال للأستاذ خليل العابث صاحب المغامرات العظيمة التي حاولت الاشارة لها في السطور السابقة! حجرتان وصالة عمل كبير لكاتب كبير يفاجئ قارئه دائما بهذه اللقطات الباهرة, وهي لقطات عابثة وعجوز في الوقت نفسه لذلك تحدث هذا التأثير العاصف:إنها تخطف الروح حقا.