عكست الميادين مرحلة مهمة من مراحل تطور المجتمع الإنساني وبلورة لمفهوم الحياة المدنية، ولذلك يعكس حالها حياة من يعيشون فيها، وثقافتهم وتطلعاتهم وأزماتهم وسلوكهم وعلاقاتهم المتشابكة، وإذ تعتبر الميادين معيارًا يمكن قياس تخلف الثقافة أو تقدمها به، كان علينا أن نسأل عما يكشفه حال الميادين المصرية حاليًا. قال العالم الاجتماعي الدكتور عبد السلام نوير، أستاذ العلوم السياسية، إن الميادين تعبر عن التحولات الثقافية في ال30 سنة الماضية، حيث انتجت أبنية عشوائية وميادين غير حقيقية مجرد "تقاطع شوارع"، يخبرنا حالها بأحد ملامح تحول ثقافة المصريين، هو افتقاد القيم ومنها قيمة النظام، ويدل ارتباك المرور بالميادين على حالة الأنانية، أيضًا افتقدنا الجمال المعماري وشكل الميدان المبهج في الصور القديمة، وعند مقارنتها بالواقع الحالي نشعر بالتوتر والقلق. ويبرهن "نوير" على أن العشوائية لا تعبر عن الفقر المالي، قائًا: يمكن أن نستشعر درجة من هذا في ميدان روكسي، حيث تجاور الأبنية التراثية بها، أبراج زجاجية ومنشآت جديدة غير منسقة، فلو كان لدينا جهازًا للتنسيق الحضاري، لحافظ على الروح الحضارية للمنطقة. ويرى أن ما أصاب الثقافة انعكس على الجوانب المكانية المحيطة بالشخصية المصرية، قائلًا: الثلاثينيات شهدت نهضة ثقافية وانفتاح على الغرب، صحيح أنها لم تمتد إلى الأقاليم، لكن على الأقل ظهرت في القاهرة والإسكندرية. وسيطرة روح الفن الإسلامي على المعماريين في تلك الفترة، فاستوحى "البارون امبان" التراث الإسلامي في تشييد "مصر الجديدة". وأضاف "نوير" منذ الستينيات، تحولت ثقافة البناء إلى الشكل "القبيح" وظهر ذلك جليًا في المساكن الشعبية، وتعريف لفظ العشوائية في مصر "متحفظ جدًا ويطلق على العشش"، لكن الحقيقية أن 80% من المباني المصرية عشوائية بالمفهوم الصحيح للكلمة. مستعرضًا وضع الميادين عبر المراحل التاريخية المختلفة، ذكر الفنان التشكيلي عز الدين نجيب أن القاهرة في عهد الخديوي إسماعيل كانت بمثابة قطعة من أوروبا، رئة للتنفس ولوحة جمالية، لاعتماده على بعض من المصممين الذين خططوا لباريس، وذلك مع الحفاظ على ملامح العمارة الإسلامية، لكن هذا المشهد الجمالي بدأ تشويهه منذ السبعينيات مع تبني "السادات" سياسة الانفتاح الاقتصادي، والإهمال من جانب الدولة والمواطن أيضا. وأوضح "نجيب" أن الانفتاح أدى إلى طغيان الجانب التجاري دون غيره من الأنشطة الاقتصادية، فظهرت "تجارة الرصيف" واحتلت البضائع مكان المشاه، إضافة إلى اصطدام العين باللوحات الترويجية الرديئة، فضلا عن الغزو البشري للمدن الناتج عن إهمال تنمية الريف، قد تسبب في تكدس المدن وتشوّه شكلها الجمالي. ويري نجيب أن هذا الوضع ازداد سوءا في عهد مبارك، وأصبح هناك افتقار مطلق للحد الأدنى من الإحساس بالجمال، حيث العشوائية طالت عمليات ترميم وصيانة ودهانات المباني القديمة. وقالالدكتور خيري دومة، أستاذ النقد الأدبي بجامعة القاهرة، إن الميادين المصرية تعكس تشوه الواقع بصدق، حتى أنها عكست ما أصاب الثورة المصرية من "لخبطة"، ففي الوقت الذي أظهرت فيه تعطش المصريين للأشكال الجمالية المختلفة كما ظهر في ميدان التحرير، تم تشويه نفس الميدان عن عمد في خضم سنوات الثورة الثلاث. كما اتفق المثقفون على الغياب التام للدور الضروري لجهاز التنسيق الحضاري، وكأن هذا الجهاز أنشيء لتكريم شخص ما ووضعه في منصب، أو أنشيء ولم تحدد له قرارات لتفعيله وأنه يغفل إضافة الفنان التشكيلي إلى عناصره، واقتصر دوره على ترقيع جلدي لبعض واجهات العمارات باللون الرمادي والأصفر دون رؤية يفرضها على المؤسسات المسؤولة عن العمران.