«من دون شعب مُثقّف ثقافة واسعة ستنهار الدولة».. قالها الكاتب والطبيب الروسي أنطون تشيخوف، أحد أشهر الكتاب في تاريخ روسيا. تمر اليوم الذكرى ال154 على ميلاده، وما زال نقاده يكتبون عن نصوصه، ويتداول محبيه أقواله، وتقرأ عليكم «البديل» بعض من كتابات النقاد عنه، بالإضافة إلى أهم أحداث حياة أنطون تشيخوف. في دراسة نقدية للكاتب والجغرافي العراقي شاكر خصباك، قال: الأدباء يتشابهون، مصائرهم تختلف. الأدباء يختلفون، مصائرهم تأتلف. وتابع: أليس هذا ما قاد أنطون تشيخوف عام 1890 إلى جزيرة ساخالين في رحلةٍ مضنيةٍ قادته بدورها إلى مصادر العذاب والفقر والانحلال والدعارة والمساجين والأمراض المزمنة، لتكون أساس كتابه: (جزيرة ساخالين 1895)، الذي فرض على الحكومة القيصرية آنذاك اتخاذ سلسلة تدابير، تتدارك بها -إذا استطاعت أن تتدارك- أسباب ما وصل إليه حال الواقع الروسي. بدا أنطون تشيخوف راضياً كل الرضا عن رحلته، وعن كتابه المشبع بالاحتجاج على القهر والظلم الذي يمارس ضد الإنسان، وهو احتجاج على القائم السياسي في الوقت نفسه، الرحلة التي دامت واحداً وثمانين يوماً في ظروف بالغة السوء حيث الصقيع وحرائق الغابات والجدب ووحشة الطريق ومخاطر السفر. وأكد أن كاتبنا كان في ذلك إنساناً جيداً وطبيباً سيئاً، كما قيل عنه آنذاك، وإلا من يذهب بقدميه إلى بؤرة أمراض لا شفاء منها!! وقال الناقد ابراهام يارموليسكي: لقد تغلغلت أنظار أنطون تشيخوف في زوايا كثيرة من الحياة الروسية، وكانت أنظاراً فاحصة ودودة، فاستطاع في النهاية أن يقدم لنا وجهاً رائعاً، كاملاً، قوياً لتلك الحياة، عن طريق البشر الذين يضطربون فيها، والذين وجدنا أنهم يشبهون بقية البشر في أنحاء الأرض. وقد بدأ تشيخوف حياته الأدبية كاتباً فكاهياً لا تعدو بعض كتاباته عن ملاحظات عابرة، لكن تلك الفكاهة لم تظهر فيما بعد في أعماله الناضجة إلا في لمحات خاطفة، متلفعة أحياناً بروح تهكمية. ولقد اختار شخصياته من بين أبناء القرى وعمال المصانع، ولكن النخبة الكبرى منهم كانت من أفراد الطبقة الوسطى. ويعرض لنا دائماً أشخاصاً تتصف حياتهم بالكآبة، والفراغ، والضيق، واليأس. وقد تساورهم أحلام طويلة في أشياء تجعل لوجودهم معنى ولوناً وعمقاً، ولكن عوزهم إلى قوة الإرادة الكافية، وإلى الظروف المساعدة، يجعل حياتهم محافظة على قتامتها. إن أدب تشيخوف يرسم صورة واضحة للمجتمع الروسي الذي كان السبيل فيه ممهداً للثورة؛ الخندق العميق الذي يفصل بين الطبقة البرجوازية وطبقة الفلاحين بعبوديتها الذهنية، المثقفين التافهين، الفقر والجهل الشنيع الذي تتخبط فيه الجماهير في صبر واحتمال لا يصدقان! وكان تشيخوف يصر على كونه لم ينحز إلى جهة من الجهات، بل ظل المراقب المنصف، الشاهد الشريف على حالة مجتمعه، لكنه في الحقيقة انغمر عاطفياً في القضايا التي كان شاهداً فيها. لقد كره النفاق والوضاعة والعبودية والبلادة وأي شيء يفسد البهجة ويلوّث العلاقات والحياة الإنسانية النزيهة، وإن قصصه ومسرحياته لدليلاً ساطعاً على هذا. إن كل قصة من قصصه دعوة إلى الحب والرأفة والحنان. لقد قال أحد شخصيات قصصه: «لابد أن يقف وراء باب كل إنسان سعيد هانئ شخص يحمل مطرقة يذكّر فيها الرجل السعيد دائماً بقرعة من قرعات مطرقته أن هناك أناساً أشقياء». وقال الناقد روبرت لينسكوت: ذكر أنطون تشيخوف في إحدى رسائله: إن هدف القصة هو الحقيقة المطلقة الشريفة. وقد حقق هدفه هذا في قصصه التي جعلته قمة بين كتّاب القصة القصيرة. لم يكن يغري قرّاءه بنهايات خداعة للقصة، ذات ألاعيب كثير الإعجاب، بل كان يفضل أن يحدث تأثيره في القارئ بالكشف عن مظاهر جديدة في الحياة في ظروف طبيعية مألوفة ولدى أشخاص اعتياديين. لقد فهم مواطنيه فهماً عميقاً حتى أصبحت أية إشارة تبدر منهم في قصصه شيئاً مميزاً لهم وشيئاً يضيف إلينا معلومات جديدة عنهم. لذلك فهو يعرضهم أمام القارئ بأقل عبارات ممكنة متجنباً الأوصاف المطولة والعظات، وبطريقة تضطرنا إلى قبول تصرفاتهم على أنها لا مناص منها. كان تشيخوف ذا مقدرة فائقة في حمل الحياة على محملها الخاص، فلم يستطع الفقر الذي قاساه في أيام صباه وأوائل شبابه أن يسحق روح المرح فيه، ولا استطاع ذلك صراعه الطويل الفاشل مع مرض السلّ. ولم يفسده النجاح، وظل يكافح دائماً ضد البلادة، ضد القسوة، ضد الرجعية العمياء. وكافح في ظل مرض لا يشفى بدون أن يفقد رغبته في الحياة وبدون أن تصبح لهجته قاسية مرة. ومع أنه ظل بعيداً عن السياسة إلا أنه كان ذا ضمير اجتماعي عملي حاد. وقال الناقد برنار جلبرت گيرني: إن تشيخوف لم يبلغ بالقصة الروسية فقط درجة الكمال الفني، بل قدم إلى العالم أجمع الشكل الحقيقي الذي ينبغي أن تكتب به القصة، والواقع أن حوالي 95% من قصصه هي الكمال الفني بمعناه. وأوضحت الناقدة إيفا لاجين: من المؤكد أن تشيخوف فهم الناس -الناس الاعتياديين- كما لم يفهمهم أي كاتب آخر في الأدب الحديث. ولقد كان موهوباً بمقدرة إلهية لرؤية أخطائهم والابتسام لها، وتقدير أفراحهم ومشاركتهم بها، وتلمس أحزانهم وذرف دمعة من أجلها. ورأى برقته وحنانه المتناهي أن الإنسان ليس رديئاً ولا طيباً، ليس سعيداً ولا شقياً، ليس قوياً ولا ضعيفاً، بل خليط من كل هذه الصفات في آن واحد. ولقد صيغت مسرحياته من فهم عميق للحياة، فهم درامي وفكه لحقيقة الحياة. ليس ثمة شيء في مسرحياته قد رتّب من أجل المسرح، ومع ذلك فتكنيكه وبراعته تحيّر المشتغلين بشؤون المسرح. حاول أن تحذف مقطعاً من إحدى مسرحيات تشيخوف، وإذا كنت حساساً تجاه العمل المسرحي وجدت ذلك مستحيلاً.