تمثل نسبة المشاركة السياسية في التصويت على مشروع الدستور الجديد نقطةَ تحول فارقة في مسيرة الموجة الثورية الثانية، ومدى قدرتها على ترجمة المسار الثوري إلى مسارٍ سياسي عبر الاستمرار في استكمال تنفيذ استحقاقات خارطة الطريق بجدولها الزمني، وهو الأمر الذي يعكس إصرارًا منقطع النظير من قبل غالبية الأحزاب السياسية، والحركات الثورية؛ على ضرورة الحشد والتعبئة للتصويت لصالح هذا المشروع، إدراكًا منها أن هذا التصويت هو بمثابة استفتاء عام على خريطة الطريق والمسار السياسي الذي أُطلق بعد 30 يونيو، كما أن نسبة المشاركة السياسية في الاستفتاء على هذا الدستور ستحسم إلى حدٍّ كبيرٍ نوعية المرشحين المحتملين لخوض السباق الرئاسي. استقطاب سياسي وأيديولوجي: ثمة تباين في اتجاهات تصويت الأحزاب السياسية والحركات الثورية على مشروع الدستور الجديد، ينطلق من عدة اعتبارات أيديولوجية وسياسية أكثر من الاعتماد على اعتبارات موضوعية تستند إلى تقييم مواد الدستور والقضايا التي عالجها، برغم أن الأخيرة تقدم كمبررات تسوق للتأثير على اتجاهات التصويت على مشروع الدستور. الاتجاه الأول: المؤيد لمشروع الدستور: ينطلق مؤيدو هذا الاتجاه من حقيقة مؤداها أن الأمر يتجاوز حدود التصويت على مشروع الدستور إلى إضفاء الشرعية الحقيقية على الواقع الجديد الذي تشكل في مصر بعد ثورة 30 يونيو عبر صناديق الاستفتاء. لذلك دشنت مجموعةٌ من الأحزاب السياسية والحركات الثورية التي تدعو للتصويت بنعم على مشروع الدستور خطةً للتحرك على عدة مستويات. الأول: خطة إعلامية تهدف إلى التوعية بالدستور، سواء في الفضائيات، أو الصحف، أو حتى عبر الإعلانات المنتشرة في ميادين مصر المختلفة. أما المستوى الثاني فإنه يتمثل في اللقاءات الجماهيرية التي تعقدها الأحزاب السياسية، والحركات الثورية، في مختلف المحافظات، بهدف نشر الوعي الدستوري، والتقارب مع نبض الشارع المصري، وتوزيع نسخ مجانية من مشروع الدستور على المواطنين. أما المستوى الثالث والأهم فيتمثل في قيام بعض الأحزاب السياسية بالتعاون مع عدد من المراكز البحثية لعقد سلسلة من الندوات، والمؤتمرات، وورش العمل، ودعوة المتخصصين والباحثين وأساتذة القانون الدستوري وبعض أعضاء لجنة الخمسين بهدف التعرف على مدى قدرة الدستور الجديد على تحقيق نقله نوعية في مسار الوطن. ويبدو أن الأحزاب السياسية والحركات السياسية التي تدعو للتصويت بنعم على مشروع الدستور تستهدف من خطتها السابقة التأثير على اتجاهات الرأي العام من خلال الاعتماد على إبراز مضمون الإيجابيات التي يحتويها الدستور، وأهمها: التأكيد على مدنية الدولة، والحد من سلطات الرئيس، ونقل بعض اختصاصاته لمجلس الوزراء، بما يعني تعزيز البعد المؤسسي، وتفعيل دور المؤسسة التشريعية في الرقابة، والتشريع، واختيار الحكومة، فضلا عن أن الدستور الجديد وضع أسسًا ومرتكزات للنظام السياسي المصري تحقق الكفاءة والفاعلية في أدائه، تقوم على التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمي للسلطة، والفصل بين السلطات، والتوازن بينها، وتلازم المسئولية مع السلطة، واحترام حقوق الإنسان وحرياته. غير أن الحركات الثورية والأحزاب السياسية في تسويقها لمشروع الدستور تتبنى أنه لأول مرة يشتمل مشروع الدستور على آلية تضمن تنفيذه، وهي تحديد نسبة للإنفاق على الصحة 3%، والتعليم 6%، والبحث العلمي 1%، من الناتج القومي الإجمالي. بما يعني أن موازنة الحكومة لعام 2016/2017 إن لم تشتمل على هذه النسب فإن الموازنة تصبح غير دستورية، ولن يتم الموافقه عليها. ولا شك أن الأحزاب السياسية والحركات الثورية تعتبرها نقاطًا مضيئة تميز مشروع دستور 2013 عن دستور 2012. ومن ثم تتعدد الأحزاب السياسية الداعية للتصويت بنعم على الدستور الجديد بمرجعياتها المختلفة، سواء كانت (يسارية، أو قومية، أو ليبرالية، أو حتى إسلامية). ويأتي في مقدمة هذه الأحزاب: النور، الوفد، المصريين الأحرار، التجمع، غد الثورة، المصري الديمقراطي الاجتماعي، الكرامة، الحزب الناصري، المؤتمر، الشعب الجمهوري، الإصلاح والتنمية، النصر الصوفي، حزب الحركة الوطنية المصرية، الشيوعي المصري، التحالف الشعبي الاشتراكي، السادات الديمقراطي، التيار الشعبي، العربي الناصري، الجيل الديمقراطي، مصر الثورة، مصر القومي، حراس الثورة. أما الحركات الثورية المؤيدة لمشروع الدستور، الداعية للتصويت بنعم على مسودته النهائية؛ فهي متنوعه أيضًا من حيث خلفياتها، ويأتي في مقدمة هذه الحركات: حركة تمرد، حركة الدفاع عن الجمهورية، تكتل القوى الثورية، جبهة تنسيقية 30 يونيو. بالإضافة إلى حملات: كمل جميلك، مش بمزاجك، السيسي رئيسي، وغيرها من الحملات. وبعض الجبهات الأخرى مثل: جبهة مصر بلدي، والجبهة الحرة للتغيير السلمي، والجبهة الوطنية لدعم الدستور. الاتجاه الثاني: الرافض لمشروع الدستور: ينطلق مؤيدو هذا الاتجاه من فرضية مؤداها أن المسار السياسي بعد 30 يونيو هو مسار يفتقد للشرعية السياسية، وبالتالي فإن المطالبه بإسقاط مشروع الدستور الحالي بطبيعة الحال تعني السعي لاستعادة الشرعية السابقة. وثمة تياران أساسيان داخل هذا الاتجاه؛ الأول يدعو لمقاطعة التصويت، وعدم المشاركة في الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، انطلاقًا من أن مجرد المشاركة الفعلية في الاستفتاء سيعد في حد ذاته اعترافًا ضمنيًّا بخارطة الطريق، واستحقاقاتها المتتالية، وهو الموقف الذي تتبناه جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسي حزب الحرية والعدالة، وعدد من الأحزاب الأخرى التي تدور في فلكها، مثل أحزاب: البناء والتنمية، العمل الجديد، الفضيلة، الإصلاح، التوحيد العربي، الحزب الإسلامي، الوطن، الوسط، الأصالة، الشعب. أما التيار الثاني داخل هذا الاتجاه فيدعو للمشاركة في الاستفتاء على مشروع الدستور والتصويت ب"لا"، ويُعد حزب "مصر القوية" من أبرز الأحزاب التي تتبنى هذا التوجه؛ حيث رفض في بيان له الدستور المعدل، ودعا الشعب للتصويت ب"لا" في الاستفتاء عليه. كما أن هناك عددًا من الحركات السياسية تتماشى مع نفس موقف حزب مصر القوية، أبرزها حركتا: 6 إبريل (جبهة أحمد ماهر)، وحركة لا للمحاكمات العسكرية. يؤسس هذا الاتجاه بشكل عام رفضه لمشروع الدستور الجديد على عدة مبررات يتبناها، أهمها: أن مشروع الدستور يشكل تخفيفًا من التزام الدولة بواجباتها تجاه المواطنين، واتساعًا أكبر في صلاحيات الرئيس، صانعًا نظامًا شبه رئاسي، وبأجهزة رقابية تابعة للسلطة التنفيذية، وبإضعاف أكبر للسلطة التشريعية، وفتح المجال لنظام فردي في انتخابات البرلمان، بما يمدد نفوذ المال السياسي والعصبيات. وبرغم أن خيار التيار الأول هو مقاطعة الاستفتاء؛ إلا أن اتخاذ مؤيديه قرارًا بالمشاركة في الاستفتاء على الدستور والتصويت ب"لا" يظل متوقعًا، وهو الأمر الذي ربما قد يؤدي إلى اندلاع أعمال عنف، ومناوشات، أو محاولة تعطيل عمل اللجان، أو حتى محاولة التشكيك في مصداقية عملية الاستفتاء برمتها. وهو الأمر الذي لن تسمح به أجهزة الدولة التي أخذت على عاتقها حماية المسار السياسي بعد 30 يونيو، وكشفته استعدادتها لتأمين عملية الاستفتاء، والتوجيه بضرورة التعامل بحزم مع أي خروج على مقتضيات النظام العام. ويبدو أن العنصرَ الحاسم ما بين الاتجاهين السابقين الرافض أو المؤيد لمشروع الدستور هو الموقف الذي تمثله الجماهير غير المنخرطة تنظيميًّا في أحزاب، أو في حركات سياسية رسمية، وهي الكتلة التصويتية الأهم، والأقدر على التحرك في الوقت الحرج، كما خرجت في 25 يناير، و30 يونيو، وهي الضامن الحقيقي للاستقرار؛ لأنها تشكل أغلبية الناخبين، وعادةً ما تحدد مواقفها التصويتية استنادًا إلى اعتبارات غير أيديولوجية، وغير حزبية، لذا سيصبح تصويت هذه الكتلة بالضرورة عاملا حاسمًا في اتجاهات التصويت. غير أن التقديرات الأولية تشير إلى أن الأغلبية الساحقة من هذه الكتلة ستصوت بنعم على مشروع الدستور، إدراكًا منها بأن دلالات المشاركة السياسية في الاستفتاء على مشروع الدستور، وإقراره؛ تمثل عنوانًا جديدًا لمرحلة تتطلع إليها هذه الكتلة غير المسيسة، أبرز مفرداتها هو تحقيق الاستقرار السياسي. المركز الاقليمى للدراسات السياسية