تحديد وتعريف المصطلح علم له قواعده وأسسه المعرفية ويخضع لاشتراطات منهجية يقاس بناء عليها نحت تصور ما لمصطلح محدد. وفي العلوم الإنسانية يبدو الأمر أكثر تعقيدا من العلوم الطبيعية ، ففي الفيزياء مثلا تشير مصطلحات " النسبية ، الجاذبية ، الفرض " إلي معاني محددة طالما نتحدث داخل نفس البارادايم أو النموذج ذاته. بينما سنجد دلالات أو معاني المصطلح الواحد في العلوم الإنسانية تختلف إلي حد ما بحسب المذهب أو الايديولوجيا التي ينطلق منها واضع التعريف الاصطلاحي. وسأتناول هنا بقدر من الإيجاز وبعيدا عن التعريفات القاموسية دلالة ومعني كل مصطلح في إطار السياق الثوري الذي نحياه منذ ثلاث سنوات 1-الثوري:هو مصطلح يشير إلي ذلك الشخص الذي يحمل رغبة أو جنوح باتجاه التغيير " الجذري" لمنطق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وبالتالي السياسية والقانونية والثقافية داخل مجتمع ما. والتغيير هنا يعني الانتقال من الحالة " أ " إلي الحالة " ب" أي من الواقع المأزوم حينما يستحيل معه الإصلاح أو التغيير السلمي إلي الواقع المأمول أو المبتغي. ويشترط هنا إدراك الثوري للهدف الاستراتيجي وملامحه العامة، بمعني شكل المجتمع الذي يريد تأسيسه والتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية المحتملة. وما بين الحالتين أ ، ب..يرسم الطريق الثوري خطوط سيره ومنحنياته وتعرجاته وخطواته مرة للخلف ومرات للأمام، وهذا يفترض وعي الثوري بحدود وقدرات وطبيعة وتكوين العدو الطبقي أو الخصم السياسي ، والحليف الطبقي أو النصير الاجتماعي والسياسي،ويدرك أيضا كيف يدير ، تكتيكيا ،الصراع المستمر والمتغير وفقا للمصلحة العليا للثورة التي تتوحد في لحظة ما مع مصلحة الأغلبية من الجماهير صاحبة الرغبة أو المصلحة في التغيير الجذري. ومعيار الثورية هنا ليس بالضرورة قدر التضحيات " شهداء – معتقلين، مصابين …الخ" بل يظل المعيار الأصيل هو القدرة علي توسيع دائرة المنتمين والمؤيدين للثورة، والتحدي الحقيقي سيكون حينئذ في مدي قدرة الثوري طوال الوقت علي الارتقاء بالوعي الاجتماعي نحو ضرورة جذرية الثورة علي النظام القائم. وبالتالي فإن الثوري – في تقديري – هو ذلك الإنسان الذي يملك من مستويات الوعي ما يسمح له بإدارة معركة التغيير بجيش شعبي وقوي اجتماعية منظمة ينمو وعيها باستمرار في اتجاه صاعد، هذا هو الأصل في التقييم، ليبقي بعد ذلك أن يتواكب معه قدر من التضحيات الفردية أو الجماعية التي تكسب الصراع طابعا نضاليا.فالتضحيات هنا هي انعكاس لجوهر صراع حقيقي، أما إذا كانت التضحيات في حد ذاتها تشكل قيمة مستقلة كافية لتطوير الثورة فليس هذا سوي نوع من الطفولة الثورية لا قيمة له في تقييمات التاريخ. من جهة أخري فإن أخطر آفة تواجه كل ثورة وكل جماعة ثورية هي أن تستبدل تفسير الواقع بمجرد وصف تحليلي يبدو في معظمه منقطع الصلة أو بعيد المسافة عن درجة الوعي المجتمعي،لأن انفصال الثوري عن واقعه يشكل كارثة كبري علي الثورة والمجتمع في آن واحد. فصحة القانون ليست كافية لإمكان تطبيقه ، وصدق التحليل ليس كاف بمفرده لتمكين الجماهير من فهمه، بمعني أن الصدق ليس بديلا عن الإقناع. فالثوري ليس هاديا للناس ومتعاليا عن وعيهم، بل هو جزء من ميكانيزم التحول والتغيير. 2-الانتهازي: الانتهازية عادة مصطلح مرتبط بالمصلحة الشخصية أو الفئوية علي حساب حقوق الآخرين. وتكمن مشكلتها في أن الانتهازي غالبا ما يغلف نوازعه الخاصة بغلاف من الثورية المبالغ فيها أو المتطرفة. وغالبا أيضا ما يمتلك القدرة علي المناورة وطعن الآخرين وخاصة من يدرك تجاههم بميل حقيقي نحو تجذير الفعل الثوري فيسرع بتخطيه عن طريق التصعيد المبالغ فيه والخاطئ من حيث الزمان والمكان. وقد وجدت الانتهازية في كل ثورات التاريخ، ونجحت أحيانا في حصد مجهودات الآخرين ونضالاتهم لأنهم فهموا جيدا كافة أطراف الصراع بما فيها الطبقات الاجتماعية واستطاعت أن تلعب علي التناقضات المختلفة لتفوز في النهاية أو تشق الخط الثوري علي أفضل تقدير، وغالبا ما يتم ذلك بشعارات أكثر ثورية وممارسات أكثر انتهازية.فهي تتاجر بكل دم وكل نضال ، بالدين أو الوطن أو الأممية أو القومية أو الفقراء والمعدمين، وترفع رايات البطولة أو الحق والتقدم والمساواة بمهارة فائقة وقدرة مبهرة علي استثمار طاقات مختلفة. والانتهازي يعرف متي يتحدث وكيف، متي يتكلم أو يصمت ، متي يزرف الدمع وكيف يحصد كل هذا. وهو دائما مثار اهتمام وإعجاب الكثيرين من ذوي الخبرات البسيطة، ولذلك فغالبا ما تلعب الانتهازية دورا خطيرا في عرقلة التقدم الثوري نظرا لمواقفها المرتدة أو المنحرفة في لحظات الحسم. وهناك نوع من الانتهازية مشكلته الوحيدة هي أن ينتصر لوجهة نظره فيلوي عنق الواقع لكي يتوافق مع أفكاره، فالذي يرتفع بالنص فوق الواقع هو انتهازي ينتصر للنص، والذي يقفز بأهدافه الخاصة فوق أهداف المجتمع هو انتهازي ينتصر لقبيلته، والذي يحرف النضال الاجتماعي الاقتصادي نحو مسارات ضيقة وشوارع جانبية هو انتهازي ينتصر للثانوي علي حساب الرئيسي. 3-الإصلاحي : وهو نصف ثوري ، نصف مناضل ، نصف مقاتل يعتمد علي الانتقال التدريجي ولا يؤمن بالطفرة الاجتماعية التي تحدثها الثورات في تطور المجتمعات. وهو غالبا ما يبدأ من نفس نقطة الانطلاق الثوري مع حركة الجماهير، ويظل ينتظر الفرصة التي تهدأ فيها شوكة الفعل الثوري حتي يدعمها. وهو صاحب مقولة دائمة" ليس في الإمكان أفضل مما كان "وأنصار هذا الاتجاه دائما ما يستخدمون شعار العقلانية والواقعية ، رغم أن الثورة ليست عملا واقعيا بالمرة، وإنما هي فعل مفارق غير طبيعي ، فعل جذري لا تحكمه قوانين المجتمع المغلق أو المستبد الذي انفجرت من رحمه الثورة. ومشكلة الإصلاحي في التاريخ هي التذبذب، والبحث عن ايجابيات كل خطوة للاكتفاء بها، ففكرة الكل الايجابي بالنسبة له ضرب من المستحيل لان القانون الذي يحكمه هو التدرج في الإصلاح وهذا النوع غالبا ما يكون أكثر وعيا ثقافيا من الثوري والانتهازي. ما يهمني هنا الآن.. هو التركيز علي الصفة الأولي" الثوري" الذي يحتاج منا إلي إعادة نظر..ليصبح ذلك الفرد الذي يحمل قدرا من الوعي بمتطلبات المستقبل وليس فقط قدرا من الجرأة لمواجهة الواقع.. فقد تستطيع أن تكسر قيود الواقع.. ولكن إلي أين تذهب بعد ذلك؟؟ هنا لا تكتمل الثورية دون إجابة علي تلك الأسئلة ..ماذا تريد ؟ وكيف تحققه ؟ وبمن ؟