والبيت كله في حالة تأهب , ماما اشترت لها المريلة الكحلي , وثنت لها الكم حتى لا يغطي كفها المنمنم . هي ترتعش ,والدموع متجمعة في عينيها الواسعتين ومن شدة الخوف لا تتساقط. فتفوتة تنظر لماما في المرآة وفمها الصغير نصف مفتوح, رأسها يتحرك مع يد ماما وهي تربط لها شعرها ,وعملت لها فيونكة جميلة بشرائط كثيرة ,وقالت إنها مثل تاج الأميرة , تستدير لماما وترفع ذراعيها عاليا لتلمس ساق ماما ,وتنزل الدموع أخيرا وهي تشهق بصوت مبحوح :” – مش عايزة اروح” وماما تربت علي رأسها وتبتسم وتقول لها أنها كبرت , وستتعلم مثل كريم ويصبح عندها كراسات ملونة وأقلام جميلة وكتاب فيه صور طيور وحيوانات وزهور , وأيضا سيصبح عندها أصحاب تلعب معهم ,ثم إن كريم في المدرسة ولن يتركك لوحدك.. وعندما فتحت ماما الباب ودخل تيار هواء الصباح البارد اهتزت الفيونكة ,ونزلت شرائط منها علي وجه فتفوته فابتلت ,ولم تستطع آن ترفعها لأن يدا كانت مع ماما , والأخرى كانت في كف كريم يشدها لتنزل علي السلم . وكريم ينزل السلم مثل الكبار ولا ينتبه إلى أن فتفوتة تحب آن تنزل واحدة واحدة وتقف علي كل سلمة بقدميها الاثنتين حتي لا تخاف ... وذهب كريم إلي فصله ناسيا أنه من المفروض أن يذهب بفتفوتة إلى فصلها أولا , ولم يتذكر إلا عندما بدأ الأولاد والبنات يضحكون عليها ويشيرون الي فيونكتها ذات الشرائط الملونة الملتصقة علي خديها. وواصلت فتفوتة البكاء ولكن هذه المرة بصوت عال , فأخرجها كريم بسرعة من الفصل وأشار لها علي فصلها , وقال ‘نه ولد وكبير ولا يحب آن يلعب معها لا في الفسحة ولا في أي وقت آخر ,لأنها لا تعرف آن تلعب الكرة مثل الأولاد , وأنها يجب آن تظل في الفصل حتى يأتي إليها آخر اليوم ليذهبا للبيت. وذهب كريم فظلت متسمرة أمام الباب وأخذت تسعل من التراب الكثير الذي يثيره الأولاد بجريهم حولها . وعندما دخلت الفصل أخيرا أحست أنها تريد دخول الحمام فأخذتها دادة إليه , ولما رأته متسخا جدا رفضت الدخول وعملتها علي نفسها.. ضربتها الأبلة , ثم ضربها كريم , وفي البيت ستضربها ماما أيضا , وهذا الموال سيتكرر كل يوم ابتداء من الآن . وهي لا تكف عن الارتعاش إلا عندما تصل للبيت , ليبدأ الارتعاش الثاني مع الاستيقاظ المبكر في اليوم التالي , وماما تحملها من تحت الغطاء الدافئ إلي الحمام , وعندما تركها كريم أمام الفصل ثانية وقفت تبكي وتتلفت حولها ولا تريد آن تدخل الفصل ولا أن ترى الابلة التي ضربتها. جاءت بنتان كبيرتان – طول كريم تقريبا – وسألتها الأولى , ذات الوجه المدور والشعر الأسود القصير :هل أنت أخت كريم؟ وقالت إن اسمها نشوي ,ومسحت لها دموعها بمنديل نظيف وأعطتها إياه لتمسكه في يدها . أما الثانية ذات الشعر الأحمر بضفيرة طويلة ,فقالت لها لا تخافي وسنأتي في الفسحة ونلعب معك. وظلت فتفوتة ممسكة بالمنديل ,وتضغط عليه بشدة بين أصابعها الرفيعة ,ودخلت الفصل وهي مازالت تنظر ناحيتهما بعينيها الواسعتين الممتلئتين دموعا... وحضرتا فعلا في الفسحة وأمسكت كل واحدة منهما بيد ونزلوا جميعا السلم واحدة واحدة إلي الفناء..جلسوا علي الرصيف الصغير الممتد أمام سور الحديقة ,وأجلسا فتفوتة بينهما فوصل رأسها أبعد من ركبتيهما قليلا , وأحست أنها لم تعد في حاجة للمنديل فرمته. وسألتها نشوي :هل معك طعام؟ فأخرجت لها البسكويت من جيب المريلة الكحلي ,وأخذت نشوي تقطعه لها في فمها و تبتسم , أما أمل ذات الوجه الأبيض والنمش علي خديها الضاحكين , فناولتها زمزمية فيها عصير برتقال بارد لتكمل طعامها ,وسألتها نشوي عن فيونكتها الغريبة فقالت أن بابا نويل أحضرها لها وأنها تراه كل سنة بثوبه الأحمر والطرطور واللحية البيضاء الطويلة , فسألتها أمل:في التليفزيون؟!! –لا في الحقيقة, يأتي من الشباك ويشير لي وهو يضحك.. وعندما تباهي كريم أمامها بأنه عندما ينجح سيترك لها المدرسة والمريلة الكحلي ,ويلبس البنطلون والقميص,لم تهتم بما قاله ولكنها سألت:هل نشوي وأمل ستذهبان أيضا؟ فضحك وقال :طبعا.. وبينما كان بابا وماما مسروران جدا بنتيجة كريم,وماما تحضر الكعكة من الفرن نظرت فتفوتة إلي الأرض وتجمعت الدموع في عينيها السوداوين ,وشهقت وهي تتمني بشدة ألا تنجح نشوي أو أمل . .............................. الرسمة للشاعرة : سوزان عليوان