((كل كثير بغير الصدق إقلال)).. بيت من شعر صوفي قديم.. تغني به مجدد السمع لروائع الصوفية ياسين التهامي.. لخّص كعادة أهل الله معانٍ كثيرة يفرد لها غيرهم من مقطوعي المدد الربّاني أوقات، ويستهلكون من أجلها عبارات، ليشرحوا معانٍ قريبة فلا هم يبلغون المراد ولا يختصرون الأمر على العباد.. فالإيجاز فيما ينبغي والإسهاب فيما يلزم، منحة تحضر حين يتحدث من يتقن فيما يتقن فيملك زمام الأمر وأصوله.. وتغيب حين يقع العكس.. فيصبح أكثر الكلام لغوًا، يعرّفه بالمعجم بأنه "ما لا يُعتدّ به من كلام، ولا يُحصَل منه على فائدة ولا نفع"، ويعرِفه الشارع المصري ب"الهري". وتلك آفة حارتنا متجددة الآفات منذ ثلاثة أعوام.. حين تصوّر الناس عامتهم وخاصتهم أن واجبهم بعد أحداث – كانت الثورة في قلبها والمؤامرات على أجنابها – أسقطت كل كبير من أعينهم أن يتحدثوا في كل شيء وعن أي شيء.. ولأن الإعتراف بالجهل بما يغلب على كلام الناس أو بما يغلّبونه على كلامهم – كرة القدم قبل يناير والسياسة بعدها – آفة في مجتمعنا، أصبح من الضروري أن يلغو الفرد مثلما يلغو الآخرون ويزعم أن له في كل مسألة رأي.. قوامه عواطفه وانفعالاته اللحظية والدائرة القريبة منه، يعبر عنه في مواقع التواصل الإجتماعي عبر صورة يشاركها أو عبر رأي انفعالي "متعصب" ينقله أو يسجله. معضلة العاطفة في السياسة انها تحجب التحليل وضرورة قراءة الأمور في سياقها العام سواء التاريخي أو المرتبط بوقائع اخرى، وتدفعه لاستسهال إطلاق أحكام ظاهرية دون الرجوع إلى الملابسات ومحاولة جمع المعلومات وتفنيدها. وحين يتم تسخير وطن كامل لخدمة أقبح أصناف الساسة "المراهقون – فكرًا لا عمرًا-" بشطحاتهم وأطماعهم ومزايداتهم.. فأنت تتحدث عن مصر بعد يناير 2011.. وحين يتم تسخير طاقات الشباب وانفعالاتهم في تزكية نيران التناحر والإحتراب الداخلي والإستنزاف البشري فأنت تتحدث عن نفس البلد بعد نفس الشهر في ذات العام. السيسي ومرسي.. الأهلي والزمالك تأمل الأحوال في مصر قبل يناير وبعدها ستكتشف أن الشىء الوحيد الذي تغير هو ان التعصب كان كرويا قبلها وأصبح سياسيًا بعدها.. غير أن النتائج تختلف. فإن حظيت كرة القدم بنفس القدر من الإستقطاب بين جماهيرها فيما سبق فإن الرياضة في حد ذاتها ممارسة يتشابه مشجعوها مع محترفيها حين يتقاذفون الكرة بين اقدامهم، كما أن التعصب الكروي في أسوأ احواله لم يصل المرضى به إلي حشد الأنصار بالسلاح في الشوارع أو إلي الترحيب بالتدخل والعدوان والإحتلال الخارجي لنصرة فريق من المتصارعين، كما يحدث من بعض انصار جماعة الإخوان. لسنا عابثين أو خاضعين لوساوس المؤامرة حين نقول أن هناك من يدفع المجتمع لتبني مصوغات نظرية جديدة للأوضاع السياسية يختصر فيها المدافعين عن بقاء الدولة الوطنية والمواجهين لكل محاولات تقويض أركانها لخدمة مصالح قوى إستعمارية في كونهم أنصار لشخص الفريق عبدالفتاح السيسي، ويختصر فيها معارضيهم على إختلاف مشاربهم بداية من فوضويين يرفضون القانون والسجون والأنظمة التجارية وكل أشكال الدولة الحديثة كجزء من عقيدتهم السياسية ومرورا بجماعات "جهادية" تعمل بجهل منذ نشأتها في خدمة البيت الأبيض وتثير أينما حلّت زوابع التفكك والتقسيم وانتهاءا بالإخوان الذين بضعفهم وقلة حيلتهم يجهلون ماهية الدولة وكيفية إصلاحها مع استمرار تسيير الأعمال بها.. في جماعة المطالبين بعودة المعزول شعبيا محمد مرسي، ويروّج للطرفين على انهما فريقي كرة "أهلي وزمالك" ومن ثم يبدأ "الهري والهري الآخر" في دائرة من العبثية المحضة التي لا تصل إلي أى نتيجة.. سوى إستنزاف لطاقات بشرية وتهيئة مناخ يقبل فيه أنصار الفريق المهزوم حتمًا في هذه المعركة وهو الخصم للدولة والأغلبية الشعبية لأي حل يمكنه من الإنتصار حتى ولو كان يخالف المباديء الأساسية التي دعت لها مختلف الأديان السماوية والفلسفات الوضعية، كما أن هذه النظرة الضيقة و"المقصودة" لمعركة الوطن الحالية تسطحها بالقدر الذي يحولها إلي مباراة "كرة" يحرز فيها كل فريق أهداف في مرمى الآخر فيهلل المشجعون عبر "صفحات الفيس بوك"، وهي في حقيقتها معركة وجودية وليست سياسية على الإطلاق فإما نعبر بالدولة إلي المستقبل وإما نسقط في مخططات التقسيم والتفكك وفقا لما هو منصوص عليه في مشاريع غربية.