عبدالفتاح أبو مدين قرأت في الوطن بالعدد الصادر يوم الثلاثاء 13 رمضان 1428ه تعقيبًا بعنوان «كثير من المعلمين يعانون من ضعف في الإملاء» للأخ صالح الزرير التميمي، فقلت: يا للهول لهذه الفاجعة في مهد العرب، ومهد اللغة العربية، إنها فضيحة حين يقال إن كثيرًا من معلمينا ضعاف في لغتهم الأم، لغة الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة لخاتم رسل الله صلى الله عليه وسلم، وهما مصدر التشريع في الدين الإسلامي، الدين القيّم، وإذا كان معلم العربية ضعيفًا فما هي حال الجيل أو الأجيال التي تعلّمها هذه الأنماط من المدرسين؟ وإنه لهيّن على الخاطر، لو قيل إن هؤلاء المعلمين ضعاف في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، فالحال قد تهون، ومع ذلك فإنهم لا يختارون ولا يعيّنون كمعلمين، لأنهم هم أنفسهم في حاجة إلى تعلّم ليتقنوا ما يريدون أن يشاركوا به في ساحة التعليم. لقد فرحت حين قرأت قبل عامين أو أكثر أن أمير عسير أصدر قرارًا بأن لا يعيّن أحد في وظيفة إلا إذا كان يتقن لغته العربية، ولعلي كتبت يومها أرجو من أمراء المناطق ومحافظيها في بلادنا، أن ينهجوا هذا النهج الكريم، غيرة على لغة الضاد في وطن العربية، وحين قرأت في العام الفارط أن ماليزيا أعلنت أن المستقبل للغة العربية، هناك عند هذه الدولة المسلمة، التي لم يمضِ على استقلالها أكثر من نصف قرن، وتساءلت فيما بيني وبين نفسي: أين نحن من هذا التوجه؟ لكن الجواب ضاع مع الريح، لأن من يجيب عليه يبدو أنه بعيد، بل غير قادر على الرد الصريح الحق، وإنما سنقرأ آمالًا وأحلامًا في اليقظة غير أنها لا تجدي، فالحياة الجادة تتطلب عملًا وقرارات ملزمة، ولكن أين ذلك؟ شاعر النيل الكبير حافظ إبراهيم، حين نعى العربية قبل مائة سنة، كان ينظر إلى هذا المستقبل المظلم بفكره الثاقب ورؤاه المستقبلية من وراء الغيب، وقد كان ما توقع.. والأمة الخاملة هي التي تهمل لغتها لتموت، ولا أعني بالموت إمحاء العربية، وإنما أن يبلغ ضعفها حتى تصبح أقل من ثانوية، لأن أهلها فرّطوا فيها ولم يحموها، لأنهم لم يعدّوا العدّة للحفاظ عليها، فضعفت وتقلصت.. ومن المفارقات أن نرى دول الغرب تعمل كل المغريات لتحبيب لغتها إلى الناس من غير أهل هذه اللغات، كالإنجليزية والفرنسية والألمانية، والأمة العربية سادرة وغير مكترثة أن تضمحل اللغة العربية، لأنها أي الأمة العربية ركنت إلى غيرها، وأمة هذه حالها، لهي أقل شأنًا من تلك الأمم والشعوب التي تغار على لغتها، لذلك نراها حريصة على بقائها ونشرها ليس في وطنها، وإنما حيث كان لهذه الأمم سفارات ومعاهد تعلم لغاتها في مختلف أرجاء الدنيا، وخاصة في البلاد العربية، بل إن المعهد الذي يفتح بابه لغير الناطقين بلغته، حين يسعى إليه أب أو أم لإلحاق ابنهم أو ابنتهم لتعلم الألمانية -مثلًا- فإن من على رأس هذا المركز، يدعوهما للالتحاق بالمركز مساءً لتلقّي اللغة -مجانًا-، كي يسيرا مع من قدما لتعلمها، فهل الأمة العربية المجيدة عندها هذا الحس وهذا الحرص على إشاعة لغتها لغير الناطقين بها؟! لا أدري! كيف يختار ويعيّن لتعليم العربية للنشء، والمعلم والمعلمة لا يتقنانها؟ إن هذه الحال ضربٌ من سبل الخيال، ولا يصدق عاقل أن يزج بمن لا يتقن الدرس أن يلقي درسًا، والمحصّلة فشل ورسوب، لأن التعليم يخرج أمّيين، والجهد ضائع، والإنفاق ضائع كذلك، والناتج خيبة أمل. لقد هممت أن أقول: افتحوا أبواب استقدام معلمين للغة العربية أكفاء، كما كنا نستقدمهم قبل خمسين عامًا، ريثما نكوّن جيلًا من معلمينا قد أتقنوا لغتهم، بل أطالب بأن من نستقدم يعملون في الكليات والمعاهد من أجل أن يعلمونا العربية لغتنا، مادمنا قد فشلنا في تحقيق ذلك.. ولعل وزارة التربية والتعليم تجدُّ في هذا الجانب فلا نعيّن لتعليم العربية إلا من هم أهلوها، لأن لغتنا فسدت، وما أكثر ما نرى ونسمع رجال جامعات، يتقدم أسماءهم «أ.د» وهم حراص على ذلك، وأنهم يغضبون إذا قصر من خاطبهم دون أن يقول: الأستاذ الدكتور.. وهم إذا تحدثوا عبر وريقات مكتوبة أو ارتجلوا يخطئون، وربما أجادوا لغات أجنبية، لأنهم سيخطّأون ويجهّلون إذا لم يتقنوها.. ومن حقنا أن نؤكد على وزارة التعليم أن تعنى بالتعليم، وإلا فهي مقصرة -كعيب القادرين على التمام- كما قال أبو الطيب. لقد دعاني أحد الإخوة من رجال التعليم في إحدى جامعاتنا، كي أزور قسم اللغة العربية وأدردش مع الطلاب في تجربتي الحياتية المتواضعة جدًا، فسعيت إلى قسمه الذي كان يضم نحو ثمانين طالبا على وشك التخرج، ومكثت ما يقارب من ساعتين، وخرجت حزينا، لأن المستوى الذي رأيت واستمعت إلى أسئلته، لو كان لي من الأمر شيء لنزلت بهم إلى مرحلة المتوسطة في التعليم العام، وهؤلاء الفتية بمجرد تخرجهم يتوجهون إلى التعليم لكي يعلّموا الطلبة، وهؤلاء المعلمون أحوج ما يكونون إلى أن يتعلموا بحق حتى يتكوّنوا، ثم يدفع بهم ليعلّموا غيرهم، بعد أن يتقنوا هم الدرس. وحين أدعو وألح في الطلب، أقول إنه ينبغي أن يعلّم العربية من يتقنها، وألا يكون الحديث في الدرس إلا بالعربية الفصحى، ليس في مجال اللغة وحدها، وإنما في كل مجال التعليم بالعربي، وأن يشدد في ذلك، ويعاقب من يقصر ويحاسب، والحال نفسها في تعليم الإنجليزية، فلا يكون التحاور إلا بها لاسيما في المرحلة الثانوية، وصدق العرب حين قالوا في أمثالهم: «اتسع الخرق على الراقع».. لكنها مسؤولية وأمانة، من يفرط فيها فحسابه غدًا على الله تعالى، واليوم فإن القيّمين على التعليم مسؤولون أمام الله وأمام الدولة، وأمام عيني قول الحق في سورة الصافات: (وقِفُوهُمْ إنَّهُم مَّسْئُولُونَ) ورجال التعليم يعون هذا النذير بالإيقاف، وهو الحبس حتى يحاسبوا عن تقصيرهم وتفريطهم في أمانتهم، وإلى الله ترجع الأمور. عن صحيفة المدينة السعودية 27/10/2007