ونحن نعرف أن بعض الناس لا يحسن التفكير العام ٬ وقد تضم إلى ذلك أنه لو ترك لكل امرئ الحق فى مناقشة ما يكلف به لتسربت الفوضى إلى شئون الحكومات والشعوب. وهذا حق ٬ ولكنه لا يصادم ما نحن بصدد تقريره ٬ أن هناك فرائض لا يجوز خدشها ومحرمات لا تمكن استباحتها ٬ وشئونا أخرى هى مجال للأخذ والرد وتفاوت التقدير. وهذه لا يملك البت فيها واحد برأسه ٬ وإنما يرفع الخلاف فيها أصحاب الحل والعقد وأهل الشورى. فإذا مرت بمرتبة البحث والعرض ٬ فلكل ذى رأى أن يظهره وأن يدافع عنه غير منكور ولا محقور. حتى إذا تمخض الدرس والنقد عن الرأى الذى استقر عليه الإجماع أو جنحت إليه الكثرة ٬ لم يبق مكان لتردد أو ارتياب أو اعتراض. والحكومات المعاصرة على اختلاف مذاهبها تحترم هذه القاعدة. ولعل هذا سر الإفراد والجمع فى الآية: `أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ` فالإله واحد والرسول واحد. أما `وأولي الأمر منكم ` فهو كثير ٬ وما يقرونه جماعتهم أو أغلبهم فهو محل احترام العامة. وليس ذلك الذى أقره الإسلام فى سياسة أمته بدعا تفرد به ٬ فإن أمما أخرى أقرت مثله من قبل ومن بعد ذلك ٬ وليس كل من غلب على حكم بلد ما يسمى ولى أمر فيه ٬ تقرن طاعته بطاعة الله ورسوله. فكم أرمق قرونا من تاريخ الإسلام الرحب وبقاعا من وطنه الكبير فلا أجد ظلا لولاية صحيحة..! كما أن الشئون التى يعالجها الولاة الموثقون تتفاوت فى موضوعها تفاوتا كبيرا فشئون الدنيا غير شئون الدين. وشئون الدين نفسه ليست سواء ٬ فالأصول غير الفروع ٬ والنظرى غير العملى. فقد يختلف أولو الأمر فى بناء جسر أو تعلية خزان ٬ وقد نختلف فى ذلك معهم لا صلة لهذا الخلاف بطاعة أو معصية. وقد يختلفون ونختلف معهم فى فقه الصلاة ويلتزم كل منا وجهة نظره… ولا وزن هنا لخطأ أو صواب. وقد تكلم العلماء فيمن يسمون أولى الأمر شرعا ٬ والشئون التى ترى طاعتهم فيها دينا ٬ ورفعوا الغموض عن كليهما. ولقد عجبت لخلاف وقع بين شباب من المسلمين أثاره بعضهم بتشاؤم هو: نحن جماعة المسلمين ٬ أم نحن جماعة من المسلمين؟ والإجابة على هذا السؤال لها نتائج ذات بال. بل نتائج ترتبط بها صيانة دماء وأموال! فإن الذين يحسبون أنفسهم جماعة المسلمين يرون مخالفة قائدهم ضربا من مخالفة الله ورسوله ٬ وطريقا ممهدة إلى النار وبئس القرار! إلا أننى عز على أن يلعب بالإسلام وأبنائه بهذه الطريقة السمجة ٬ وأن تتجدد سياسة الخوارج مرة أخرى ٬ فيلعن أهل الإيمان ويترك أهل الطغيان. وبم؟ باسم أن القائد وبطانته هم وحدهم أولو الأمر! وأن لهم حق السمع والطاعة؟ وأن الخارج عليهم يصدق فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : `من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر ٬ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية` وقوله: `من خلع يدا من طاعة لقى الله لا حجة له ٬ ومن مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية`. وهذه الأحاديث وأمثالها وردت فى منع الفتوق الجسيمة التى يحدثها الشاغبون على الدولة ٬ الخارجون على الحكام. وقد عانى المسلمون وعانت خلافتهم الكبرى أقسى الآلام من ثورات الحانقين والناقمين ٬ وربما كان سقوط الحكم الإسلامى فى الأرض بسبب هذه الانتفاضات الهائلة… بيد أن تعليم هذا الجنون كان أسلوب تربية وتجميع عند بعض الناس!! أن يقال: إن الولاء للقيادة يكفر السيئات ٬ وإن الخروج عن الجماعة يمحق الفضائل ٬ أى إسلام هذا؟ ومَن مِن علماء الأولين والآخرين أفتى بهذا اللغو؟ وكيف تلبسون الدين هذا الزى المنكر؟ وهيهات ٬ فقد تغلغل هذا الضلال فى نفوس الناشئة حتى سأل بعضهم: هل يظن المسلم نفسه مسلما بعدما خرج من صفوف الجماعة؟ ولنفرض أن رئيس الجماعة هو أمير المؤمنين وأن له حقوق الخليفة الأعظم "!" فهل هذا يؤتيه على أتباعه حق الطاعة العمياء؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤت هذا الحق! ففى بيعة النساء يقول الله له: `..ولا يعصينك في معروف`!. وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: ` قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : `السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ٬ فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة`. وروى مسلم عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس فى ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه ٬ فأتيتهم فجلست إليه فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ٬ ومنا من ينتضل ٬ ومنا من هو فى جشرة ٬ إذ نادى رسول الله: `الصلاة جامعة` فاجتمعنا إلى رسول الله فقال: `إنه لم يكن نبى من قبلى إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ٬ وينذرهم شر ما يعلمه لهم ٬ وإن هذه الأمة جعلت عافيتها فى أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها ٬ وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتى ٬ ثم تنكشف ٬ وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه ٬ هذه!… فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ٬ وليأت إلى الناس الذى يحب أن يؤتى إليه. ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده ٬ وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر`!… قال: فدنوت منه فقلت: أنشدك بالله ٬ أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبى. فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا ٬ والله تعالى يقول: `يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما`. قال: فسكت ساعة لحظةثم قال: أطعه فى طاعة الله ٬ واعصه فى معصية الله… سياق الحديث كما ترى فى توفير الأمن لحكم قائم ٬ وخليفة مبايع ٬ ومع ذلك فإن عبد الله رأى التمرد على الحاكم فريضة إذا أمر بمعصية ٬ فكيف بالتمرد على رجل من سوقة الناس منح نفسه أو منحه أشياعه سلطانا موهوما! على أن من الإنصاف لتعاليم الإسلام ونحن بصدد الكلام عن تغيير الحكام أن نذكر القاعدة القائلة: إذا كان تغيير المنكر يؤدى إلى مفسدة أعظم ٬ فالإبقاء عديه أولى ٬ وذلك مصداق قوله تعالى: `واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب` . والواقع أن الزلازل التى تتبع إسقاط الحكومات قسرا بعيدة المدى. ومن ثم لم يرض الإسلام أن يشهر السيف فى وجه حاكم إلا أمام ضرورات ملجئة أبانها هو ولم يترك بيانها لتقدير أحد. بل إنه حبب إلى المؤمن التضحية ببعض حقوقه الخاصة إشاعة للاستقرار فى أنحاء البلاد ٬ وإغلاقا لمنافذ الفتن. فعن عبادة بن الصامت قال: `بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ٬ وألا ننازع الأمر أهله أى نطلب الحكم من ولاته إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان. وإننى لأمقت أن أكون داعية لحاكم ما ٬ وأستعيذ بالله من أن أعين بكلمة على بقاء والٍ جائر. غاية ما أبغى أن أشرح قانون السمع والطاعة وأن أمنع الكهان والدجالين من الاحتيال به على ناشئة قليلة الفقه فى الإسلام. إن تغيير حاكم شئ والانصراف عن واعظ غير موفق شئ آخر. لقد كان الراسخون فى العلم يدعون إلى الله ويتجردون للدعوة ٬ فكان الناس يرون طاعتهم من طاعة الله لأنهم تلقوا دروس معرفته عنهم. ثم جاء الراسخون فى الجهل يطلبون حقوق القيادة ٬ ويتحدثون عن قانون السمع والطاعة ٬ ولست أعنف دعيا من هؤلاء على مزاعمه ومطالبه. فالأمر كما قيل: `بعض الناس طغاة لأننا نركع لهم`. 2 القول بعصمة الأئمة غير معروف بين جمهور المسلمين من أهل السنة. فمذهبهم أن القائد أو الحاكم يجئ من أى طبقة ٬ وأنه فى موضعه العالى من تصريف الأمور يجوز عليه أن يخطئ وأن يصيب. وأن نصحه إذا أخطأ كمؤازرته إذا أصاب واجب على الأمة. بل إن أهل السنة يرون أن النبى صلى الله عليه وسلم ٬ على جلالته قد يخطئ فيما لم ينزل به وحى… ولكن الإرشاد الأعلى يستدرك عليه ويوجه اجتهاده إلى الصواب الذى فاته. أما الشيعة فهم يحصرون الخلافة فى الأسرة النبوية ٬ ويقولون بتقديس من يتولى منهم شئون المسلمين. ولست فقيها فى مذهب الشيعة.. ورأيى أن الخلاف فى سياسة الحكم عندنا معشر المسلمين سياسى لا عقدى ٬ وأن أركان الإسلام تظلم عندما يقحم عليها هذا الخلاف الذى بدأ تافها ثم استفحل مذ خالطته شهوات الدنيا! وأريد أن أعرض هنا المسألة "عصمة أو تقديس القيادة".. فإن القول بعصمة واحد من هؤلاء هو عندى خرافة كبيرة. ومن السخف أن يطالب عاقل بتصديق هذا الزعم سواء تبجح به رئيس أو هرف به مرءوس. وربما كان الضغط الذى صادفه التشيع أول أمره سر انتشار هذه الكلمة ٬ فقد استبد الأمويون والعباسيون بالحكم دهرا طويلا ٬ وضيقوا الخناق على معارضيهم حتى جعلوهم يحيون فى جو من الوجل والتوجس. والأحزاب المناوئة للحاكم عندما تفقد نعمة العلانية فى التنفيس عن رغباتها ٬ والإبانة عن مقاصدها وغاياتها ٬ لا ترى بدا من جمع فلولها فى الظلام ونشر تعاليمها فى شكل رسائل أو منشورات مقتضبة حاسمة.. وقد كان طلاب الخلافة من ذرية على يعيشون فى هذا الخفاء المسحور ٬ وينالون من الحب بقدر ما يناله الحاكم من سخط. وربما كان بعضهم أعف نفسا وأصدق قيلا من أمراء أمية والعباس فهو يرى فى مناوشته الحاكم وإسقاطه خدمة للإسلام قبل أن يكون خدمة لنفسه… والوسيلة الوحيدة هى المقاومة السرية ٬ حيث يتلقى الأتباع الأوامر الصادرة من فوق على أنها نصوص واجبة الطاعة ٬ لا مجال ألبتة لمناقشتها أو التملص منها. لا.. إن شيئا من هذا لا يجول بخاطر واحد من الأتباع! فإن تنفيذ هذه الأوامر دين تقبل عليه النفس بلذة وشغف ٬ ولو كانت عقباه العطوب..! وفى هذه الدائرة المغلقة تتحول الثقة فى القيادة إلى قول بعصمة الأئمة… ذلك أن مرور الزمن على هذا الكبت يحور الصلة بين الأتباع المضطهدين وسادتهم المختفين حتى تنتهى إلى هذا المصير. وخطورة هذا الضرب من المعارضة المستخفية أنه البيئة الخصبة لنمو الأوهام والأساطير. وأظن أن الفرق الكثيرة التى نهشت جوهر الإسلام من باطنية وقرامطة وغيرهم لم تتولد إلا فى هذه البيئة. إن الأوامر التى يصدرها أشخاص فقدوا قوة العمل فى النور قلما تخضع لتمحيص المنطق وتحقيق الشورى. حتى بعد أن تواتيهم السلطة ويقيموا حكما يرعى أمور الناس فى وضح النهار.. وهكذا ينتقل مبدأ تقديس الزعامة من صفوف المعارضة إلى صفوف الحكم نفسه ٬ والإسلام برىء من هذا كله. وقد رأيت جمعا غفيرا من شباب المسلمين ينظرون إلى قائدهم نظرة يجب أن تدرس وأن تحذر. قال أحدهم: إن القائد لا يخطئ. ومع أن كلمة `القائد لا يخطئ ` وجدت امتعاضا من السامعين ٬ إلا أنه امتعاض المذنب عندما يواجه بجريرة لا يجد منها فكاكا.. ويكره أن تلتصق به ٬ لظهور معرتها. والقوم يخلطون بين توقير القائد وتوفير المهابة له.. وبين الخنوع لرأيه والمسارعة فى هواه. لقد قال قائل: `إن الإيمان بالقائد جزء من الإيمان بالدعوة`. ثم أضاف: `ألا ترى أن الله ضم الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بذاته جل شأنه؟ ذلك أن المظهر العملى للطاعة والأسوة هو فى اتباع القائد اتباعا مطلقا…!! ثم استدرك القائل: `لا أعنى بهذا أن أسوى بين القائد والرسول فى حقيقة الطاعة ٬ إنما أقصد دعم مشاعر الولاء نحو القائد ٬ فأنا أضرب مثلا فحسب`…!! إن نفرا من العباقرة ظهروا فى ألمانيا وإيطاليا ومصر والهند أوتوا من المواهب الخارقة ما جرفوا به جماهير العامة واستهووا به الخاصة. وكانت آراؤهم تعصف بما عداها وأشخاصهم تطوى الأصدقاء وتكسح الخصوم. وهؤلاء الزعماء الكبار لا تضبط صلاتهم بأتباعهم على هذا النحو تعاليم الإسلام ٬ فلا هم عرفوها ولا هم تقيدوا بها. إن الأقدار قد تسلح بعض الناس بقوى أشبه بقوى القاطرة التى تجر وراءها ألف عربة ٬ وإذا كانت شعوب بأسرها يطريها الإعجاب بقائد ما ٬ فتنشق حناجرها بالهتاف له ٬ وتملكها عقلية القطيع فى السير وراءه ٬ فذاك أمر يصح أن تدرس علله ونتائجه على ضوء التاريخ القديم والحديث. أما الشىء الذى تحار البرية فيه فهو إطباق قبيل من الناس على تقديس شخص ليس لديه ذرة من الخصائص العبقرية.