إن في سبيل السعادة الإنسانية، التي هي ثمرة وجود الإنسان ونتيجة خلقه، عقبات لا بد من قطعها لمن يريد أن يكون سعيداً، ولا يخلو اقتحامها من صعوبة تلحق بالمعاني بعض الآلام الوقتية، وتصور تلك الآلام يقعد بالنفس عن العمل متى كان النظر قاصراً والهمة ساقطة. ولكن من وراء التقاعد أهوالاً صعاباً، وآلاماً شداداً تلزم من تلم به فيصير شقياً فقيد اللذة مادامت الحياة. ومن ثم أوجبت الأنبياء والحكماء والعقلاء من كل أمة في كل عصر السعي في سبيل السعادة، من غير مبالاة بما يعرض فيه من المشقات، علماً بأنها آلام وقتية عاقبتها الراحة الدائمة وغايتها النعيم المقيم، ونهوا عن الإهمال وإن كان فيه نوع من الراحة الآنية واللذة العرضية، لإصارته إلى الشقاء اللازم، وبئس المصير. غير أن كثيراً من الناس تعظم في وهمه صغار الأمور، وتقوى في مخيلته ضعاف الأتعاب والمشقات، فيخلد إلى أرض الخمول والتخلي عن الأعمال، ظناً منه أن هذا خير له من الإقدام على العمل المقرون ببعض التعب أو المستعف لضرب من ضروب العناء، فهؤلاء الذين يصعب عليهم احتمال المشاق اللازمة لهذه الحياة الدنيا ويطلبون الراحة من كل ما يخيله الوهم شقاء فيقعدون عن الجد يحرمون السعادة. فإذا خاف الإنسان تلك الآلام الوقتية، وهوّلها له الوهم، فأقعده الخوف عن الجد في تحصيل العزة تدركه الشقوة ويصير من الأذلاء، وما سبب هذا إلا خوف الذل والشقاء، ومن أجل ذلك ترى ضعفاء النفوس الذين يعلمون من ذواتهم العجز عن بلوغ ما يأملون، ويتيقَّنون من همتهم القصور عن إدراك ما يبتغون تصور لهم الأوهام مخاوف في طريق الأعمال، وربما لم يكن لها حقيقة في عالم العيان، فينصاعون لحكم الوهم، وتحملهم الروعة على ملازمة ملاذ الكسالة، فيصيرون إلى شر ما كانوا منه يفرون. وكثيراً ما تحكى لنا التواريخ شقاوة الذين آثروا الإحجام على الإقدام بسبب المضي مع تلك الأوهام التي غالباً تكون فاسدة لا حقيقة لها، بل كثيراً ما شهدنا أناساً حوموا النعيم وقاموا في العناء لذهابهم خلف ما يتوهمونه من المخاوف والمشقات الآنية، ولو علموا أن ما يتوهمونه مخاوفاً ربما لا يلقونه في سبيل المسعى، وأن سعيهم إنما هو فرار من أشرار لابد أن يجلبها التهاون والإهمال، وأنه يمكن أن يدفع الإقدام عنهم مضرات فوق ما لابد من وجودها، وأن ذلك المخوف ألم وقتي يسارع إلى الزوال عند بلوغ الغاية، لو علموا كل هذا لما وسعهم إلا الإقدام، ولأنهم جهلوا مقادير الأشياء، وخافوا مالا ينبغي الخوف منه فنالوا الذل والهوان، وبئس المنال. والسر في ذلك أن الوجود الإدراكي مؤسس على ركنين عظيمين: أحدهما جلب المنافع. والثاني إبعاد المضار فمتى عدم واحد منهما هدم الوجود بتمامه. وكل من الركنين لابد لتقويمه من معاناة العمل في الطلب ومقاومة المكروه. ولنا شاهد على ذلك أن الإنسان إذا تساهل في حقوقه فلم يحفظها خوفاً من إهانة قوى أو معارضة عائق في سبيل الحفظ. فإن النفوس تستهين بشأنه فتمتد إليه الأطماع من كل الجهات تنتف حقوقه نتفة بعد نتفة إلى حد أن لا يكون فيه مطمع لطامع ولا منتف لناتف فيمكث مقصوص الجناح وهذا غاية الذل ونهاية الصغار. ومثل ذلك إذا تهاون بمصيبة ألمت به أو ضعف أعتراه فلم يطلب الأسباب التي تنقذه من الخطر الذي وقع فيه. فإنه لا يزال يعظم به المصاب وتتضاعف عليه النوازل حتى تهلكه بعد شقاء ربما كان لا يخطر بباله، وكان من السهل عليه أول الأمر أن يداوي داءه بقليل من الإقدام يجعل بينه وبين عاديات النقم حجاباً منيعاً فما أوقعه في الشقاء الدائم إلا توجسه من المخيفات الوهمية واستثقاله لمكابدة بعض المتاعب الوقتية. أما إذا قاوم المغتال ورد ذوي الاغتصاب ولم يبال بما يجلبه النزاع فإنه إما أن يغلب فيحفظ حقه ويكون قد أوقع بذلك الرعب في نفوس ذوي الاعتداء فلا يستحلون حماه ولا ينالون منه بعد ذلك نيلاً فيحيى محفوظ الحقوق مصون الواجبات، وأما أن تكون الغلبة عليه بعد تلك المشادة والمقاومة فلا تستهين به النفوس ولا توجه نحوه مطامعها بقوة، مثل ما إذا علمت فيه التساهل والانكماش وقلة المناكدة والمناقدة، وحينئذ يتأتى له أن يظفر بخصمه في ثانية الحال إذا اعتدى عليه، إذ لا يعدم من قوة الحق نصيراً، فهو إن فاز عاش سعيداً وإن غدرته الصدفة يوماً نصره الحق أياماً، وفي حين انغلابه لا يناله الذم والتشوير، إذ لم يبدو منه في الحق الواجب شيء من التقصير، بل لا يكون ذلك واضعاً من مقامه في النفوس وإن طال أمد الغلبة، فإن العقول تعرف مقداره، والأذهان تحفظ آثاره، فإذا عاش مسلوب الحقوق ظلماً عاش والعيون تأخذه بالاحترام، وتنظر إليه نظر الإكرام، عادة كل شريف النفس في هذا الوجود الشاعر الدارك، على أن العيش مع سلب الحق بعيد من شرفاء النفوس، فهم بين أن يعيشوا عظاماً وأن يموتوا كراماً، يخلد لهم الجهاد عن الحق ذكراً جميلاً يتلوه اللسان ما بقي في عالم الوجود إنسان. وأما ضعفاء النفوس الذين يردهم خوف المكروه الموهوم عن اختلاب الرغائب والدفاع عن الواجب فهم إن عاشوا أذلاء، وهم إن ماتوا أدنياء، لا يذكرون إلا على سبيل التحذير من التلون بصبغاتهم، والتنفير من قبيح صفاتهم، حيث خافوا من الذل فوقعوا فيه على كيفية أشر مما كانوا يتوهمون. ولا يجمل بالإنسان أن يترك واجباً ضروري الحصول لمنع الخطر عن النفس لأجل ملاحظة خوف موهوم ربما يكون من ضروب المستحيلات، أو يكون بعيداً ثبوته في عالم الوجود، إنما يجمل به أن يأخذ الأمور بقوابلها ويقابل بينها وبين أمثالها، وينظر إلى الأشياء بعين العقل لا بعين الوهم، حتى يستميت دون طلب الحق الواجب ولا يعيش من خوف الذل ذليلاً. ويلزم على طالب الحق في كل حال أن يكون حكيماً، يطلب الوسائل الممكنة بعد إعداد ما يقرب من المطلوب، ويأخذ بالاحتياط في جميع أعماله، مستعملاً للقياسات والأدلة المنتجة للنتائج الصحيحة الصالحة لأن تكون أساساً متيناً لمباني مقاصده، فإن لم يفعل ذلك كان مخاطراً متهوراً، فيجتمع مع الخائف من الذل، الواقع في الذل، وحاشا أن يكون الحكيم ذليلاً، وإنما هو عزيز في جميع أحواله، والناس غيره من خوف الذل في الذل. (والناس من خوف الفقر في الفقر): معلوم عند العقول أن المال يحتاج في البقاء والنماء إلى حفظه من أيدي الطامعين ، والمرابحة فيه بضروب المعاملة والبدال، فإذا كان لدى الإنسان شيء من المال ومر عليه أحد الطامعين يريد اغتصاب شيء منه فخاف ربه إن حجز الطامع يجر إلى شجار وخراب أو رفع شكوى إلى حاكم تستدعي صرف نقود لرسوم التداعي مثلاً، فيجلب من الخسارة ضعف ما كان يأخذه الغاصب، وتأدى به هذا الخوف إلى التساهل فيه، فلا شك تستلين كل الأطماع جوانبه فتسلبه كل ما ملكت يداه، ويعود فقيراً معدماً. على أنه لو كان ناكد الغاصب وناقده، لأمكن أن يحجز حقه، ولا يلقى في سبيل المقاومة والمناكدة ذلك الذي قدره الخيال، فتسدأ قواه المطامع دونه، ولا تجد إلى التهامه سبيلاً، ولكنه خاف الفقر فصار فقيراً. وإذا حبسه (المال) عن المرابحة فلم يستعمله فيما ينميه خيفة أن تلم به العاديات فتفنيه، ومكث ينفق منه فيما تطالبه به لوازم الحياة، فلا يلبث أن يذهب جميع ما لديه لتوالي الإنفاق عليه وعدم ما يكون عنه بديلاً، فيصير بخوف الفقر فقيراً. مثلاً: من يكون لديه شيء من الدراهم يقدر أن يصرفه على أرض تنبت ما يستفيد منه أضعاف المصروف، أو يستطيع أن يشتري به عروض تجارة يأتي له الاتجار فيها بفائدة عظيمة، وخاف على الأرض يصيبها الفرق أو يلم بها الشرق أو تجتاح نباتها الجائحات، وخشي على عروض التجارة أن تتدانى فيها الأسعار أو يدركها البوار أو تحرقها النار أو تغرقها البحار، إلى غير هذه من الآفات، ثم أمسكه بسبب هذه الخيالات عن الاستعمال، فإن ما لديه يفنى بالإنفاق في قليل من الأيام، وهناك ينشب فيه الفقر مخالبه، فيعود من الفقر معدماً لا يملك إلى الفقر. وإجمال المقال: أن المضي مع الوهم مجلبة الوبال فإن شأنه أن يعطي الشيء مالا يستحقه، ويلبسه غير ثوبه، فلا يحسن بالإنسان أن يقبل حكمه، وإنما عليه أن ينظر إلى الأمور من مرآة العقل فيتبع ما يراه ويمضي على مقتضاه، فإن أوجب عليه الإقدام نبذ الأوهام، واتخذ ما يلزم من الأعمال، وإذا أراه الحكمة في الإحجام أخذ الأمر بالامتثال، ولبث يرقب فرص الزمان، حتى إذا سنحت سارع إلى انتهازها ودخل إليها من باب الإمكان. ولا يأمر العقل بترك الثابت إلى الموهوم، ولا يشير بالتساهل في صيانة الحقوق والتمتع بها لخوف ما عساه يكون من المشقات في سبيل الحفظ والصيانة، ولا ينهى عن استعمال المال فيما يوجب حفظ نوعه عليه وينميه لأمور على فرض حصولها لا تكون أكثر ضرراً ولا أشد ألماً مما لا بد منه في جانب الإهمال. إنما يأمر بالاستماتة دون طلب الحقوق ورعاية الواجبات، ويشير بتوطين النفس على احتمال الآلام الجزئية الوقتية في جانب رفع أضرار كلية دائمية، ووصول إلى راحة عيش ونعومة بال، وينهى عن إهمال استثمار المال والتقاعد عما يحفظ بقاءه ويوجب نماءه، فهو يعلم أن الناس من خوف الذل في الذل، والناس من خوف الفقر في الفقر