ظلت محافظة قنا ردحا طويلا من الزمان تمثِّل في تصور الثقافة المصرية كنزا معرفيا وجماليا بسبب كثرة مبدعيها وخصوصية أطروحاتهم الإبداعية، فضلا عما تمتعت به – ولا تزال – من موروث معرفي وثقافي شكَّل هو الآخر زاداً لا غنى عنه للباحثين والدارسين للتراث العربي أو المصري القديم. ولقد كان تقدير الثقافة المصرية للإبداع الجنوبي المتمثل في محافظة قنا ظاهرا وواضحا وجليا فيما يلقاه مبدعوها من اهتمام في كل المحافل الأدبية والثقافية الأمر الذي استشعره الأدباء والمثقفون أنفسهم ... ومن هنا بدأت المأساة التي لم يستيقظوا عليها إلا هذا العام فقط. تبدأ تلك المأساة في الظن أو الوهم الذي سيطر على هؤلاء المثقفين والمبدعين أنهم ما داموا يتمتعون بكل هذه الخصوصية وبكل هذا الاهتمام، وما داموا يحتلون مشهد الصدارة على خارطة الإبداع المصري فلاشك أن لهم كلمة، ولاشك أن لهم صوتا مسموعا، ولاشك أنهم يشكلون قوة لها من الأثر والتأثير ما لغيرها من القوى الثقافية أو حتى السياسية الأخرى خاصة وأن عددا كبيرا من هؤلاء المثقفين والمبدعين حقيقيون، بمعنى أنهم يهتمون بالسياسي والاجتماعي اهتمامهم بالثقافي والإبداعي، كما أنهم ليسوا معزولين عن مجتمعهم ولا يعيشون في أبراج النخبة ومَن إليهم. إلى أن وقعت الواقعة – أو لنقل وقعت الواقعتان – التي اكتشف هؤلاء من خلالها أنهم عاشوا في الوهم طويلا وسكنوا في الكهف زمانا. الواقعة الأولى هي واقعة مظاهرات الغضب والاحتجاجات الواسعة التي شهدتها مدينة قنا تحديدا ضد تعيين اللواء عادل ميخائيل شحاتة محافظا لقنا منذ شهور حيث اكتشف المثقفون حجمهم الطبيعي في الشارع القنائي إن لم يكن في مصر كلها خاصة مصر وسائل الإعلام التي حرصت على التصعيد والتشويه لتنقل كل أخبارها وتُجري كل حواراتها مع العامة والدهماء وممثلي التيارات الدينية، وتجاهلت عن عمد المبدعين والمثقفين؛ لينتج عن ذلك تصور خاطئ ومغلوط تماما في الرأي العام كله مفاده أن قنا كلها ترفض المحافظ القبطي ...! وربما بدتْ هذه الواقعة هينة ويسيرة – في تصوري- أما الواقعة الكبرى فهي التي تمثلت في إعادة إنتاج السيد اللواء عادل لبيب محافظا لقنا مرة أخرى حيث انعكست هنا الآية تماما وانقلبت الأمور ليعلن المبدعون والمثقفون هذه المرة احتجاجهم واعتراضهم على اختيار ممثل النظام السابق ونائب رئيس جهاز أمن الدولة وصديق الرئيس مبارك محافظا لهم مرة أخرى ..! ومنذ الإعلان عن اختياره لم تتوقف الاعتراضات أو الاحتجاجات لكنها للأسف الشديد لم تأخذ شكل المظاهرات ولا التجمعات، ولم يلجأ أحد منهم للحشد أو التجييش واكتفى الجميع بالكتابة في مجتمع لا يقرأ وإنْ قرأ فهو لا يتأثر ولا يتحرك. وظن أولئك وهؤلاء من المحتجين أو المعترضين أن الشارع القنائي – على الأقل – يمكن أن يلتفت إلى الجريمة التي ترتكب في حقه، أو أنه يمكن أن يعيد النظر في تفكيره حول استمرار تعامل الحكومة المصرية معه على أنه حقل تجارب لكن شيئا من ذلك لم يحدث ...! وجاء اللواء عادل لبيب إلى محافظة قنا محمولا على الأعناق وكأنه الكائن الخرافي أو الأسطوري الذي سيقود ثورتهم – التي لم يشاركوا فيها – ضد الظلم والقهر والاستبداد متجاهلين تماما كل الكتابات التي كُتِبتْ عن تاريخ الرجل وماضيه. ولم يعد عادل لبيب لمحافظة قنا محمولا على الأعناق بالتعبير المجازي كما قد يتصور البعض لكنه عاد محمولا على الأعناق بالتعبير الحقيقي حيث اتجهت عشرات السيارات لمطار الأقصر لاستقبال القائد الملهم والذي كان ذكيا بما يكفى ليكون أول ما يفعله في قنا هو أداؤه لركعتي صلاة شكر في مسجد سيدي العارف بالله عبد الرحيم القنائي في إشارة لا تخطئها العين ولا الأذن – خاصة إذا لم تكن مقطوعة – لحالة الغزل والمحبة للتيارات الدينية التي رفضت المحافظ القبطي من قبل...! وامتلأ ميدان سيدي عبد الرحيم بالآلاف من البشر فضلا عن الآلاف الأخرى التي احتشدت أمام ديوان عام المحافظة بالمزمار البلدي ..! وكان غريبا ومدهشا أن تدب الحركة والنشاط في مرافق المحافظة قبل تشريفه بيومين بل وقبل أدائه لليمين لينتشر عمال النظافة والخدمات في كل مكان...! ولم تكد تمضي ساعات حتى لبَّى سيادته نداء الدعوة الكريمة التي وجهها له الكاتب والصحفي الأستاذ مصطفى بكري لحضور مؤتمر جماهيري بقرية ” المعنى ” مسقط رأس الكاتب الذي كان مِن أول المدافعين عنه بل والمرحبين به ليفتح بذلك – مصطفى بكري – الباب واسعا أمام كثير من الإشاعات والأقاويل التي تتردد عن ارتباطهما بفكرة تقاطع المصالح بينهما في الفترة السابقة لعادل لبيب في قنا...! وبعدها بيومين تقريبا تقع كارثة أخرى تتمثل في حضور عدد من أعضاء المجلس الوطني المصري لعقد مؤتمر جماهيري في مدينة قنا برئاسة الدكتور ممدوح حمزة وفي حضور عدد من أعضاء المجلس كالدكتورة كريمة الحفناوي الناشطة السياسية المعروفة وكان المجلس قد طلب من سيادة اللواء أن يعقد المؤتمر في نادي ” سندريلا ” الشهير بالمدينة لكن سيادته رفض تماما ...! ولا أحد يعرف حتى الآن سبب الرفض رغم أننا في عصر الثورة والحريات، ورغم أن النظام الجديد الذي من المفترض أن يمثله سيادة اللواء لا يمانع الآن في استقبال كل الأطياف والتيارات السياسية...! وما يعنينا الآن أن المجلس اضطر لعقد مؤتمره في إستاد قنا الرياضي مساء يوم الأربعاء 11 أغسطس الماضي، ويحدث أن يعترض أحد السلفيين من الحضور على بعض كلام الدكتورة كريمة الحفناوي ولأنه لا يعرف شيئا عن حوار أو اختلاف لم يجد إلا حذاءه ليلقي به في وجوه الجالسين على المنصة ليعيد هو أيضا إنتاج ثقافة الحذاء التي ابتدعها الصحفي العراقي منذ سنوات. ولن نتساءل عن عدم حضور سيادة اللواء عادل لبيب لهذا المؤتمر رغم أنه مؤتمر وطني يناقش حاضر ومستقبل مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، لكننا فقط سنتساءل عن تعليقه أو رد فعله إزاء الحدث، ولعله من حقنا أن نتساءل عما يتردد من أن ما حدث كان مرتبا ومتفقا عليه بينه وبين هذا التيار السلفي ...! ولنا الآن أن نتخيل حجم التصور الذي خرج به أعضاء المجلس الوطني من زيارتهم تلك لمحافظة قنا، خاصة وأن هناك تصورا قديما عما حدث في واقعة الاحتجاجات والمظاهرات الأولى وهو ذلك التصور الذي لعب فيه الإعلام الدور الأكبر في تشويه صورة المجتمع القنائي، وحدث أن حاول أحد الصحفيين الشباب الاتصال بالدكتور ممدوح حمزة ليعتذر له مباشرة عقب الحادث فما كان من الدكتور إلا أن كال الشتائم للمحافظة ولأهلها مُعرِّضا بالثقافة والحضارة التي يتمتع بها جنوب البلاد ...! عاد اللواء عادل لبيب محافظا لقنا في سابقة لا أظنها حدثت في تاريخ الحكم المحلي، عاد لتشتعل قنا مجددا وليدفع أهلها الثمن غاليا بعد أن ارتفعت أسهم وأرصدة التيار السلفي الذي تنطَّعَ كثيرا وكذب كثيرا وهو يزعم أن اعتراضه واحتجاجه على عماد ميخائيل شحاتة كان فقط لأنه من رجال النظام السابق ...! ولأنه شرطي وأمني ...! وكأن عادل لبيب أستاذ بالجامعة أو مستشار بالقضاء...! عاد سيادة اللواء ليكتشف المثقفون كلهم أن قيمتهم الحقيقية ليست في الشارع ولا في الميادين لكنها فقط في الورقة البيضاء وفي الخيال الجامح الذي يستدعونه ليسلّيهم ويعزيهم عن هزائمهم وجراحهم القديمة والمتجددة ..! عاد سيادة اللواء مرة أخرى ليهتم فقط بالشارع والميدان والشجرة والنافورة ولينفق عليها جميعا من جيوب البسطاء والفقراء جباياتٍ وضرائبَ دون أن يلتفت للمواطن أو الإنسان. خرج اللواء عادل لبيب أكثر من مرة حتى الآن للمواطنين في قنا ولم يحدث أن اعتذر مرة واحدة عن تاريخه ولا عن علاقاته بالنظام السابق، لم يدافع عن نفسه ولم يتكلم عن ليلة القبض عليه ولا عن التحقيقات معه، تجاهلَ تاريخه كله وحدَّث الناس عن التنمية والقضاء على البطالة والمشروعات المستقبلية ولم ينس أن يهدي الناس كراتين رمضان التموينية وسط هتافاتهم وزغاريدهم ووسط ذقون ولحى ومسابح التيارات الدينية التي تباركه أينما حل أو ارتحل. ولا عزاء للمثقفين.....!