المصريين لم يثوروا ليغيروا أشخاص ، لم يقدموا ستة آلاف شهيد وجريح من أبنائهم ليستبدلوا ديكتاتور بآخر ، لم يفترشوا أرض الميادين الرئيسية من أسوان إلى الإسكندرية ثمانية عشر يوما من أجل إقالة أحمد نظيف وعلى المصيلحي وتعيين عصام شرف وجودة عبد الخالق ، ليس من أجل ذلك ثار المصريون . فثورتنا كانت على سياسات اقتصادية واجتماعية خاصمها الصواب واستعمرها الفساد ، وممارسات نظام سياسي اتخذ من قمع المعارضين والكذب على الشعب والتمهيد لتوريث الدولة والسلطة عقيدة له طوال ثلاثة عقود ، ثورتنا كانت على عقلية حكم قبل أن تكون على شخصية حاكم ، لذا فعندما نكتشف بعد كل هذه التضحيات أن الحاكم تغير لكن عقليته لازالت تحكم يجب أن نغضب ، وعندما نجد أنفسنا أمام أحمد نظيف وعلى المصيلحي يرتدون أقنعة عصام شرف وجودة عبد الخالق يصبح من حقنا أن نثور من جديد . إن ما حملته إلينا أخبار الصحف وبرامج التوك شو وتصريحات رئيس الوزراء ووزير التضامن الاجتماعي طوال الأسابيع الماضية بشأن التحقيق في تلقي بعض منظمات المجتمع المدني لأموال من الخارج ، يكشف بوضوح عن إن عقلية مبارك ورجال حكمه لازالت قابضة على السلطة حتى الآن ، فالخطاب الذي تتبناه الحكومه الحالية إزاء منظمات المجتمع المدني يحمل نفس مفردات وقناعات حكومة نظيف وما قبلها ، ورغم الإختلاف الجذري في الانتماء الأيديولوجي لوزيري التضامن في حكومة نظيف وحكومة شرف ، إلا إنهما كانا على قلب ولسان رجل واحد في عدائهما المعلن والمستتر لمنظمات المجتمع المدني خاصة الحقوقية منها . تحاول حكومة شرف ووزير تضامنها – الذي نحبه ونحترمه – إظهار منظمات المجتمع المدني المصرية بأنها تتلقى تمويلا سريا من المعونة الأمريكية وهي ترتكب جريمة الشهادة الزور عندما تدعي عدم معرفتها بهذه الأموال وتبالغ في تمثيل دور الزوج المخدوع فتشكل لجانا لتقصي حقيقة هذه الأموال وأوجه إنفاقها ، أما الحقيقة فهي بخلاف ذلك كما سنكتشف بعد قليل . الحقيقة الموثقة هي أن ما تقدمه الوكالة الأمريكية لمنظمات المجتمع المدني من تمويل يتم من خلال إعلان مفتوح منشور على موقع الوكالة وعدد من الصحف المصرية اليومية يتم من خلاله دعوة المنظمات لتقديم مقترحات مشروعات وتسمى هذه الآلية “ إعلان البرنامج السنوى (APS ، والذي يتم تنفيذه استناداً على قانون أمريكي معروف جيدا لدى الحكومة المصرية وهو قانون المساعدات الأجنبية لعام 1961 . وخلال أعوام 2009، 2010، 2011 نشرت الوكالة الأمريكية إعلانين يحملان دعوة لتقديم مقترحات مشروعات أحدهما في يوليو 2009 ، والثاني في مارس 2011 ، وتتضمن هذه الإعلانات كافة الوثائق والمستندات الخاصة بالدعوة وهي متاحة للجميع ويمكن الحصول عليها مجانا دون الرجوع للوكالة ، وبالتالي فإن صفة السرية تنتفي تماما عن إجراءات الحصول على التمويل . وتشير شروط هذه الإعلانات بوضوح إلى أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لا تقدم تمويلات لأشخاص أو لكيانات غير رسمية ، بل إنها تشترط أن يكون المتقدم للحصول على التمويل من بين المنظمات المصرية غير الحكومية المسجلة في وزارة التضامن الاجتماعى ، كما تشترط أن تتماشى مقترحات المشروعات المقدمة مع القوانين المصرية المعنية. ، ومعنى ذلك باختصار أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لا تمنح مشروعاتها إلا لمن يحصل على رضى الحكومة المصرية ويسير وفقا لأهوائها . أما عن عدم معرفة الحكومة المصرية بالمنظمات التي حصلت على تمويل فإنها كذبة كبرى تستحق أن يقدم من أطلقوها إلى النائب العام أولا ويتركوا مناصبهم الوزارية ثانيا ، لأن المطلع على القانون 84 لسنة 2002 المنظم لعمل المنظمات الأهلية في مصر سيكتشف بسهولة أن حصول أي منظمة على تمويل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أو أي جهة مانحة أخرى من المستحيل أن يتم بدون موافقة وزارة التضامن الاجتماعي ، بل إن مجرد فتح حساب بنكي لتلقي أموال المنحة لابد أن يتم بموافقة كتابية من الوزارة إلى البنك المقصود . فالمادة 17 من القانون المذكور تنص على أنه “في جميع الأحوال لايجوز لأية جمعية أن تحصل على أموال من الخارج سواء من شخص مصري أو شخص أجنبي أو جهة أجنبية أو من يمثلها في الداخل ، ولا أن ترسل شيئا مما ذكر إلى أشخاص أو منظمات في الخارج إلا بإذن من وزير الشئون الاجتماعية “ أما المادة 42 فتعطي للوزير سلطة حل الجمعية في حالة الحصول علي أموال من جهة خارجية او إرسال اموال الي جهة خارجية بالمخالفة لحكم المادة 17 من هذا القانون ، كما إن المادة مادة76 من القانون تعاقب بالحبس مدة لا تزيد علي ستة اشهر وبغرامة لا تزيد علي الفي جنيه او باحدي هاتين العقوبتين كل من تلقي بصفته رئيسا او عضوا في جمعية او مؤسسة اهلية سواء كانت هذه الصفة صحيحة ، او مزعومة اموالا من الخارج او ارسل للخارج شيئا منها او قام بجمع التبرعات دون موافقة الجهة الادارية فإذا كانت الحكومة المصرية ووزير تضامنها الاجتماعي لا يعلمان شيئا عن حصول بعض المنظمات الأهلية على تمويل من المعونة الأمريكية في وجود كل هذه الإجراءات وترسانة النصوص القانونية وشفافية وعلنية تعامل الجانب الأمريكي فهذه مصيبة ، أما إذا كانوا يعلمون ويكذبون على أنفسهم وعلى الشعب فتلك هي الكارثة بعينها . ما كنت أتمناه أن يشغل الدكتور شرف ووزير تضامنه الاجتماعي نفسيهما بالبحث في مصير مليارات الدولارات التي حصلت عليها مصر خلال السنوات الثلاثين الماضية في إطار برامج المساعدات الإنمائية من الدول المتقدمة للدول النامية ، بدلا من أن يشغلوا أنفسهم بالبحث عن 40 مليون دولار معروف مصدرها و أوجه إنفاقها ، خاصة إذا ما علمنا أن الحكومة المصرية قد حصلت في السنوات التسع الأولى من الألفية الجديدة فقط ما يزيد على 22 مليار دولار وفقا للإحصائيات الرسمية لوزارة التعاون الدولي يأتي ثلثها تقريبا (31%) من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والسؤال المشروع والمنطقي والذي يجب أن تحقق حكومة شرف في إجابته هو ما مدى استفادة المواطن المصري من كل هذه المليارات التي حصلت عليها حكومته ؟ وإذا ما كانت هذه الأموال الطائلة أديرت بشفافية وأنفقت من أجل رفاهية المواطن فلماذا خرج الملايين يطالبون بإسقاط النظام الذي هوى بأكثر من نصفهم تحت خط الفقر وحرم أكثر من ثلاثة أرباعهم من خدمة الصرف الصحي وقتل مئات الآلاف بالمياه الملوثة وحرم الملايين من التعليم الجيد ؟ تبقى معلومة أخيرة لابد أن نوردها هنا ليستبين الحق من الضلال ، وهي أن حصول مصر – كحكومة أو كمنظمات غير حكومية – على مساعدات إنمائية متمثلة في منح وقروض ميسرة من الدول المتقدمة هو حق مكتسب بقرار رسمي صادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة عام 1970 وهو القرار رقم 2626 ، والذي يشير في فقرته 43 إلى أنه ” سيكون لكل دولة متقدمة اقتصاديا تدريجيا زيادة مساعداتها الإنمائية الرسمية للبلدان النامية من أجل التوصل إلى الحد الأدنى لمبلغ صافي قدره 0.7 في المائة من ناتجها القومي الإجمالي بأسعار السوق بحلول منتصف العقد”. ومعنى ذلك إن الشعب يجب أن يحاسب حكومة شرف عندما تفشل في استقطاب حقوقنا المشروعة من المساعدات الإنمائية ، بدلا من تحاسب هي منظمات المجتمع المدني لأنها نجحت في انتزاع هذا الحق .