بدعة امريكية لقهر الدول الجائعة تحت سيطرتها..والحرب الباردة للسيطرة على الشعوب منهج امريكا ..التزام أبدى بالتدخل في الشئون الداخلية للدول تحت مبرارات الأساليب الإنسانية ! مراجعة السجل التاريخي تظهر دورا سيئا وذميما لسياسة واشنطن الخارجية " لم نفعل شيئا سوي أن استبدلنا الأشكال البالية للنظم الإستعمارية بأشكالا جديدة أكثر دهاءا في الإخضاع والهيمنة" .. هكذا بدأ الكاتب والمفكر الأمريكي " نعوم تشومسكي" كتابه النظام العالمي الجديد ، وهو الكتاب الذي جمع مادته من ثلاث محاضرات ألقاها "تشومسكي" في الجامعة الأمريكية في القاهرة في مايو 1993. يفكك لنا الكاتب اليساري الكبير شفرات و قواعد اللعب' الأمريكية التي وضعتها واشنطن حين شارفت الحرب الباردة علي الإنتهاء وبعد اختفاء الاتحاد السوفيتي عن المسرح ، وهي لعبة تمارسها واشنطن لإحكام سيطرتها علي شعوب العالم الثالث بمباركة الأنظمة التابعة والحاكمة له ، وبشكل يجعلنا نري أن تعبير السيطرة لا يتوافق بشكل كبير مع سياسة أمريكا الشيطانية التي تتبني نظام قرصنة عالمية ، وهو ذاك النظام الذي يعرف بالنظام العالمي الجديد. يستفيض تشومسكي في الحديث عن النظام الجديد الذي وضعته السياسية الأمريكية حيث يقول "بعد انتهاء الحرب الباردة ، تبني النظام السياسي الأمريكي إجراءات قياسية جديدة في المنافسة الدولية من دون أن يفقد نبض الحركة وبوصلة الاتجاه . وبات واجبا مع المرحلة الجديدة إخفاء السجل الكامل لسنوات الحرب الباردة وغسل السجلات من مدونات شاهدة علي حوادث الإرهاب والعدوان والحروب الإقتصادية وغيرها من الجرائم التي ارتكبتها أمريكا و أرعبت حشودا واسعة من البشر ، وبعدما لاحظت بعض دول العالم الثالث أن هناك اتجاهات للإهتمام بهم من قبل الدول الغربية منذ السبعينيات وخاصة بعد ارتفاع أسعار النفط عام 1973 ، تشكلت لجنه أطلق عليها " لجنة الجنوب" من اقتصاديين بارزين من العالم الثالث ومخططين حكوميين ورجال دين ، راجعت هذه اللجنة الحالة المأساوية للدول الخاضعة للتأثير الغربي ، ونادت بنظام عالمي جديد قادر علي الإستجابة لسعي الجنوب نحو العدل والمساواة والديمقراطية في المجتمع العالمي ، ولكن للأسف كان مصير هذه الدعوة الحزينة التي جاءت من جانب دول العالم الثالث النسيان لأنه بحسب قول تشومسكي " الغرب تحكمه رؤية أخري مغايرة ، عبر عنها بوضوح "ونستون تشرشل" في حديثه المبكر عن نظام عالمي جديد كان يرتب له في أعقاب الحرب العالمية الثانية بقوله : يجب أن تؤتمن حكومة للعالم تعبر عن الأمم التي لا ترجو لنفسها شيئا أكثر مما بحوزتها . فلو أن حكومة العالم كانت في أيدي شعوب جائعة سيكون الخطر دوما محدقا. وليس لدي أي منا دوافع للسعي لشيء أكثر مما نملكه. يجب أن يتم الحفاظ علي السلام من قبل شعوب تعيش علي طريقتها من دون أن تكون لديها مطامع في الآخرين. إن قوتنا تضعنا فوق الجميع . فنحن أشبه برجال أغنياء يعيشون آمنين في مساكنهم". مباديء ومعايير النظام العالمي الجديد التي تحدث عنها تشرشل ربما لا نلمح فيها شرا كبيرا ، إذا كانت قراءتنا لها عابرة ، لكن التدقيق فيها يكشف لنا مدي خستها ، فتشرشل بوصفته السياسية يؤكد أن الحكم هو حق ومهمة للرجال الأغنياء الذين يعيشون في سلام يستحقونه. يحلل "تشومسكي " الوصفة السحرية لتشرشل قائلا " من الضروري هنا إضافة ملحوظتين علي كلام تشرشل ، الأولي أنه ليس صحيحا أن الرجال الأغنياء يقنعون بما في أيديهم ولا يسعون إلي المزيد ، فهناك أكثر من طريقة لزيادة ثروة المرء وإخضاع الآخرين في ذات الوقت، كما أن النظام الإقتصادي يتطلب عمليا سعيا مستمرا ، فالمتلكئون يخرجون من اللعبة. والملاحظة الثانية تتعلق بالقول الواهم بأن الأمم لاعب أساسي في المجالات الدولية ، وهو قول يعبر عن خداع قياسي ، نظرا لأنه داخل الأمم الغنية كما هو داخل الأمم الجائعة ، هناك فروق هائلة بين الإمتيازات والسلطات. يزيل "تشومسكي" الوجه الخادع للوصفة السياسية لتشرشل بتقديمه الخطوط العريضة للنظام العالمي الجديد علي النحو التالي : "يحكم الرجال الأغنياء في المجتمعات الغنية ويتنافسون فيما بينهم للفوز بحصة أكبر من الثروة والسلطة ويزيحون بلا رحمة أولئك الذين يقفون في طريقهم ، ويساعدهم في ذلك الرجال الأغنياء في الدول الجائعة ، أما الباقون فيخدمون ويعانون". هذه هي المباديء الحقيقية للنظام الجديد والتي تطبقها الولاياتالمتحدةالأمريكية متبعة أساليب أكثر دهاءا في الإخضاع والهيمنة ومن بين هذه الأساليب كما ذكرها تشومسكي " الإلتزام الأخلاقي بالتدخل في الشئون الداخلية للدول تحت مبرارات الأساليب الإنسانية ، وهي قضية علي درجة كبيرة من الأهمية لأننا لا نجد كثيرين يتناولون الصور المعكوسة للدور الأمريكي في العالم بطريقة نقدية ، فمراجعة السجل التاريخي تظهر لنا دورا سيئا وذميما لسياسة واشنطن الخارجية ، الشيطانية علي مدي التاريخ". يري "تشومسكي" أن محركات السياسة الأمريكية هي محفزات إنسانية مشيرا الي أن خطر هذه السياسة قد تجاوز البعد الإنساني أو الخيري في تلك المحفزات ويضيف " لقد فشلنا في الوصول إلي فهم لا أناني للبعد الإنساني للرحمة ، كما فشلنا في إدراك الحدود التي يجب أن نقف عندها حين نشرع بالتدخل في شئون الآخرين ، وإن الجيوش التي نرسلها إلي أراضي الغير تحت دعاوي إنسانية ليس بوسعها بالضرورة حماية الناس من أعدائهم أو من أنفسهم". يستند تشومسكي في تحليله لسياسة واشنطن الخارجية القائمة علي الإخضاع والهيمنة إلي رؤية القائد السياسي "جورج كينان" وهو ناقد لاذع لسياسات الحرب الباردة ويري أن الولاياتالمتحدةالأمريكية ارتكبت خطأ تاريخيا حين تجاهلت ولمدة أربعين سنة سبل التفاوض حول إقرار السلام وحل النزاعات مع الروس ، كما جدد "كينان" أيضا النصيحة التقليدية بضرورة أن تحد أمريكا من اشتباكاتها مع الخارج وأن تدرك أن دولة مثلها تستنفد طاقتها خارج الحدود وأن تضع في الإعتبار أن هناك حدودا لا يمكن لدولة من الدول أن تتجاوزها حين تقدم مساعدة لدولة أخري ، حتي لو ادعت هذه الدولة أنها الأكثر عفة بين الدول. ارتكبت الولاياتالمتحدةالأمريكية العديد من الجرائم في حق الإنسانية تحت ظلال النظام العالمي الجديد التي تسيطر من خلاله علي شعوب العالم الثالث ، والتفاصيل في هذا الشأن كثيرة ولا تحتاج لأكثر من أن ننفض الغبار عن أوراقها ، وهذا ما فعله المفكر الكبير "نعوم تشومسكي" حيث ألقي الضوء علي العديد من الحروب ومن ثم الدمار الذي ألحقته أمريكا بالكثير من دول العالم مستخدمة مفاهيم خادعة مثل " عمليات التنمية ، الاستقرار، دعم الديموقراطية" يشير الكاتب الكبير إلي حملات الذبح والتعذيب والتدمير التي نظمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية وأدارتها في أمريكا الوسطي خلال عقد الثمانينات وكان الهدف منها قهر التنظيمات الشعبية التي كانت تهدف إلي تحقيق درجة من درجات السيادة وحكم الذات لهذه الشعوب التي وقعت لزمن طويل في القبضة الأمريكية ، ولذلك قامت الولاياتالمتحدة ، بقهر وتدمير هذه الحركات الشعبية حتي تظل هذه الدول تحت سيطرتها ، ويضيف "تشومسكي " توصف تلك الفترة المخزية من العنف الإمبريالي الأمريكي بأنها علامة علي سمو مثلنا ونجاحنا الباهر في دفع الديمقراطية ودليل علي احترامنا البالغ لحقوق الإنسان في ذلك الإقليم البدائي ، كما تغاضينا أيضا عن تجاوزات أخري ارتبطت بتنافسات الحرب الباردة التي أوقعنا فيها أمريكا الوسطي في ورطة سخيفة". ويختتم "تشومسكي" الفصل الأول من كتابه والذي حمل عنوان " الحرب الباردة والسيطرة علي الشعوب" بأن نصر أمريكا في الحرب الباردة كان نصرا لمجموعة من المباديء السياسية والإقتصادية تقوم علي الديمقراطية وحرية السوق وفي النهاية سيفهم العالم أن السوق الحر هو المستقبل ، ذلك المستقبل الذي تمثل فيه أمريكا صمام الأمان والنموذج الذي يحتذي ، ومن هنا تستطيع الحفاظ علي الدول الجائعة تحت سيطرة واشنطن وحلفائها ولكنها تفضل أن ترتدي ثوبا من العفة وهي تسحق كل من يقف في طريقها ، ولكن ما يشهده العالم اليوم وما تشهده الدول العربية علي وجه التحديد قد كشف زيف عفة هذا الثوب ، بل رأيناه ثوبا أسود قبيح".