ما بين المليونيات المتتالية عقب قيام الثورة كانت السيطرة لعبق الثورة وحمية الثوار ، كانت هناك الأحاديث المتناثرة على قارعة الطريق لا تعرف سوى مفردات الثورة ، فى الحواري فى الشوارع وحتى فى البيوت كانت مفردات الكلام تقف عند حواديت الثورة والثوار .. كان الفعل عظيما وضخما ليحتوى كل تفاصيل الحياة .. نحيا داخل الثورة .. نحب داخل الثورة .. نغنى داخل الثورة ..نتعبد داخل الثورة .. نموت داخل الثورة .. حقا كانت هناك ثورة . تمر الشهور .. بل تمر الأسابيع القليلة .. ليخفت تدريجيا ضجيج الثورة الذي صنعه الثوار كي لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء كما قال لنا الثائر جيفارا .. تبدأ أحاديث الاستقرار والبناء والفلول والثورة المضادة والانفلات الأمني والمطالب الفئوية والفتنة الطائفية لتتصدر مشهد الكلام .. خلف كل ذلك تتوارى تدريجيا مفردات الثورة .. تعود إلى المشهد وبقوة الكيانات السياسية التي دخلت إلى محراب الثورة متحسسة خطواتها بل ومترددة لتشارك فى صنع هذا الستار ما بين الثورة وما بعد الثورة .. يزداد هذا الستار الفاصل سمكا بشكل تدريجي كي نصل معا فى النهاية إلى حقيقة انه “كانت” هناك ثورة .. ولما لا والمليونيات المتعاقبة خير شاهد على ذلك .. نبدأ بمليونيات لإسقاط النظام ورحيل الديكتاتور و محاكمة الدكتاتور .. ثم ننتهي لمليونيات من قبيل وقف انتخابات نقابة المهن السينمائية والتي لا تحتاج إلا لجمعية عمومية من عده آلاف قليلة من الأعضاء .. ننتقل من مليونيات لإسقاط النظام إلى مليونيات لاستعراض القوة ما بين التيارات السياسية المختلفة ، ليتأكد داخلنا إن مليونيات الثورة قد “كانت “.. وحان الوقت لقطف ثمار الثورة ما بين القوى السياسية المختلفة ، ليتأكد لنا أن ميدان التحرير الذي وحد الجميع تحت يافطة الشعب المصري قد كان .. وان الميدان تحول الآن لاستكمال مهام الثورة وقطف ثمارها .. استكمال لا تعنى سوى انه قد كانت هناك ثورة !! وتأتى المفارقة بمشاركة النخب السياسية كافه بلا استثناء القديم منها والحديث لتكريس فكرة أنه كانت هناك ثورة ، فيسرعون لقطف ثمارها ، كل فيما يخصه .. وحينما يستسلم المواطن والعامل البسيط لهذه الفكرة ” أنه كانت هناك ثورة ” ويخرج فى مظاهرات واعتصامات وإضرابات فى محاوله لقطف ثمار تخصه هو أيضا ، يواجهه الجميع بان الثورة لم تنته وعليك الانتظار على جوعك وجوع ابنائك ، وتخرج علينا قوانين تجريم الاعتصامات والإضرابات بمباركة من الجميع تقريبا ، وتنصب المحاكم العسكرية للمعتصمين والمضربين بدعوى تعطيل عجلة الإنتاج ، بل وتسيل دماء “مريم عبد الغفار حواس” عاملة المنصورةاسبانيا التي قتلت تحت عجلات إحدى سيارات المارة وزميلاتها أثناء اعتصامهن للمطالبة بصرف رواتبهن !! سالت دماء مريم بشارع الجمهورية بمدينة المنصورة التي كانت تطالب فقط بصرف 300 جنيها تسد بها جوع أبنائها لتكريس فكره إن الثورة قد “كانت ” !! ولأنه كان من أهم مشاهد الثورة التي “كانت” هو انسحاب قوات الشرطة وترك الأمن للجيش واللجان الشعبية والثائرين ، فعلينا بعد انتهاء الثورة أن نسعى كل هذه الشهور لعقد المصالحة التاريخية ما بين الشرطة والشعب ، يطول أمد المصالحة أسابيع طويلة لنرسخ من خلالها أن الثورة قد انتهت ، وكأن هذه الشرطة المنسحبة لا يحكمها قانون عسكري ، تصل العقوبات فيه إلى إعدام من يرفض تنفيذ الأوامر .. ثم يخرجوا علينا بان هناك جاسوس إسرائيلي خفيف الظل يتجول فى مصر كما يشاء منذ قيام الثورة وحتى الآن ، بل وكي يرسخوا فكرتهم أكثر خوفا من مرور الحدث مرور الكرام ، يصوروا الجاسوس على أنه سوبر مان ومسئول عن كل كبيرة وصغيرة حدثت منذ قيام الثورة وحتى الآن ، لنسألهم ونسأل أنفسنا السؤال المنطقي لما تم ترك الجاسوس كل هذه الشهور ، لتأتى الإجابة انتظرنا حتى تهدأ الأحداث ، أو بمعنى أدق حتى تنتهي الثورة !! وأخيرا وكي نرسخ لنفس الفكرة يخرجوا علينا بقرار إلغاء حظر التجول ، هذا الحظر الذي لم يشعر به احد ونسينا إن هناك حظر تجول أساسا ، لكنهم لا يفوتون فرصه لترسيخ أن الثورة “كانت” !! فهل حقا كانت هناك ثورة .. وكانت هناك دماء تسيل !! ” لقد اختفى العبق الثوري .. فقد انزوى زي المليشيات وعادت الملابس الأنيقة للظهور مرة أخرى، الأغنياء ذوى الكروش والسيدات الأنيقات، وعاد الجيش النظامي- القائم على التفرقة بين الضباط والجنود – للظهور من جديد...... وفقدت الجماهير المدنية حماسها واهتمامها بما يحدث... فقد عاد تقسيم المجتمع لأغنياء وفقراء، لطبقة عليا وطبقة دنيا للظهور من جديد “.. (جورج اورويل تعليقا على فشل الثورة الاسبانية )