لعل أهم حدث على الصعيد العربي في تلك الفترة كان حرب أكتوبر، حيث أتاح مشروع "ويكيليكس" مؤخرًا أكثر من مليون وسبع مائة ألف برقية توثق مراسلات السفارات الأمريكية ولقاءاتها واستراتيجيتها وتحليلاتها في حقبة السبعينيات، وتعد تلك البرقيات مرجعًا ثريًّا وسردًا دقيقًا، يساعد على فهم كواليس السياسة الحديثة، كما يسرد الدور الكامل للسعودية في الحرب وقطع النفط عن أمريكا. جاء ذلك في موقع "مرآة الجزيرة" اليوم، ففي أغسطس 1973 التقى الملك "فيصل" بالممثّل الأمريكي لشركة "أرامكو" حيث كانت ملكية الشركة تشترك فيها السعودية وأمريكا، فأخبره أن السعودية تستخدم سلاح النفط للدفاع عن القضية الفلسطينية، والتقى الممثل بعد ذلك بوزير الداخلية الأمير "فهد" الذي أكد على قوة علاقته بأمريكا وإيمانه بأن مصلحة السعودية تكمن في تلك العلاقة، وأنه بصفته رئيس المجلس الأعلى لشؤون البترول والمعادن سيحرص أن تبقى السياسة النفطية تحت السيطرة. وفي سبتمبر 1973 زار الملك "فيصل" السفارة الألمانية ليؤكد عمق العلاقة بين السعودية وأمريكا، وعلى ضرورة أن تسعى ألمانيا والسعودية للتقرب من أمريكا، وحفظ العلاقات معها فعدتها السفارة تراجعا عن التهديد بقطع النفط. وفي 10 رمضان الموافق 6 أكتوبر، كانت السعودية أمام اختبار حقيقي حين شنت سوريا ومصر هجومًا مشتركًا لاستعادة الجولان وسيناء الذين احتلتهما إسرائيل عام 1967، وتؤكد البرقيات السرية أن السعودية لم تكن تعلم عن الهجوم شيئا، واستاء الملك "فيصل" من الهجوم؛ لأنه سيضعه في موقف حرج مع الولاياتالمتحدة؛ ولأنه سيبدو متخلفا عن الركب؛ ولأن الاتحاد السوفيتي قد يجدها فرصة للنيل منه. وفي 8 أكتوبر التقى "محمود ملحس"، مساعد الأمير "فهد" بالسفير الأمريكي، وأكد له أنه منزعج مما أقدمت عليه سوريا ومصر، وأنه يعده عبثيا لكن السعودية ستضطر لمساعدتهما مراعاة للضغوط الداخلية، وظهر سريعًا التفوق العسكري العربي لدرجة أذهلت الدبلوماسيين الأمريكيين، الذين علموا أن أمريكا ستزود إسرائيل بالسلاح، فطلبوا من واشنطن أن يكون تدخلها هادئا، وكان المسئولون السعوديون على علم بتسليح أمريكا لإسرائيل، لكنها بررت لهم ذلك بأن الاتحاد السوفيتي يزود العرب بالسلاح، وأن ذلك يجعل الكفتين غير متساويتين، في هذا الوقتعتمت الصحافة السعودية على أي ذكر لتسليح أمريكا لإسرائيل، بل ذهبت أبعد من ذلك فحذفت أجزاء من خطبة للسادات يشير فيها إلى معونة أمريكا لإسرائيل، وأخبرت وزارة الإعلام السفارة الأمريكية، أنها أقدمت على ذلك تفاديًا لتهييج المشاعر ضد أمريكا. في هذه الأثناء التقى السفير البريطاني بعدد من المسئولين السعوديين، وجميعهم بلا استثناء كان قلقًا من أن السعودية قد تضطر للمشاركة الفعلية؛ لأنها إن لم تفعل فسيحملها العرب المسئولية حال الخسارة وسيلومونها حال الفوز، وانتقد بعضهم بشدة "السادات" وبدأه للمعركة. وفي 9 أكتوبر كان وزير الدولة للشؤون الخارجية "عمر السقاف" في الأممالمتحدة وهدد بقطع النفط، لكن يبدو أنه كان تصريحًا ارتجاليًّا إذ إن السفارة البريطانية سألت "سعود الفيصل" عن ذلك فأخبرهم أنه لم يكن على علم مسبق، وصرح الأمير "سلطان" أيضًا أن السعودية ستقلل من إمدادات النفط، لكن الخارجية السعودية أخبرت السفارة أن حديث الأمير "سلطان" عام ولا علاقة له بالظروف الراهنة. في ذات الأثناء أخبر مسئولون سعوديون السفارة الأمريكية أنهم يستبعدون أن تخوض السعودية الحرب، لكنها لا تستطيع أن تمكث هكذا ولذا فإن اضطرت للمشاركة فستكون مشاركتها رمزية، وفي 10 أكتوبر أخبرت السعودية الأردن أنها سترسل كتيبة إلى سوريا فخاف رئيس الوزراء الأردني "زيد الرفاعي" من ذلك فاتصل بالسفارة الأمريكية في عمان ليطلب منها أن تتواصل مع الملك "فيصل"؛ لأن الأردن لن تستطيع أن ترفض. وفي هذه الأثناء كانت الصحافة السعودية تهول من دور السعودية وتشيد بمشاركتها في الجبهة السورية، ولتتأكد أمريكا أن السعودية لن تقدم على شيء ولتحكم قبضتها راسلت وزارة الخارجية الأمريكية شركات الدفاع الأمريكية، طالبة منها ألا تشترك في أي نشاط خارج الحدود السعودية. في 10 أكتوبر دعت الكويت الدول المصدرة للنفط لاجتماع عاجل لبحث استخدام سلاح النفط، وجاءت الدعوة بعد تنامي ضغط البرلمان الكويتي والاحتجاجات الشعبية،عدت السعودية المبادرة محرجة لأنها لا تريد المغامرة، وفي ذات الوقت أكد ولي العهد الكويتي "جابر الأحمد الصباح" للسفير البريطاني أن الكويت "لا تريد أن تضر أصدقاءها فهي تحتاجهم". وعقد الاجتماع وسرعان ما وشى وزير النفط السعودي "أحمد زكي يماني" بمجرياته التفصيلية للسفارة الأمريكية، كانت العراق وليبيا تقفان في الجانب "الرديكالي" فطالبا بقطع النفط تماما وقطع العلاقات مع أمريكا، وسحب أرصدة الدولار لينهار، لكن السعودية واجهت بشدة كل تلك المقترحات، فدعت العراق الدول للانسحاب من الاجتماع لكن أحدًا لم يلحق بها، انتهى الاجتماع بعد التسوية إلى خفض نسبة الإنتاج 5% على الأقل شهريا وبأثر رجعي حتى حل القضية. وفي 11 أكتوبر التقى الأمير "نواف بن عبد العزيز" السفير الأمريكي ليؤكد له حرص السعودية على علاقتها بأمريكا وعلى ضرورة وقف إطلاق النار، وأكد له أن العرب لا يريدون تدمير إسرائيل بل تنفيذ قرار مجلس الأمن 242 القاضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967. في 19 أكتوبر طلب الرئيس الأمريكي "ريتشارد نكسون" من الكونجرس اعتماد معونة عسكرية عاجلة لدعم إسرائيل بمبلغ 2.2 مليار دولار، كان التطور صارخًا ولا يمكن كتمانه كما كتمت المعونات السابقة، فاضطرت السعودية لإعلان قطع النفط عن أمريكا بعد أن قامت ليبيا بذلك. وبذلك قسمت الدول المستهلكة للنفط لثلاثة أقسام، دول مقاطعة وهي الدول التي تسلح إسرائيل ولا تنال من نفط السعودية شيئا، وهي "أمريكا وهولندا والبرتغال"، ودول محبذة وهي الدول التي أدانت إسرائيل وتنال حصتها كاملة، كما كانت قبل الحرب دون نقصان، وهي "بريطانيا وفرنسا وإسبانيا"، ودول غير محبذة وهي الدول التي لم تنحز للعرب، وتتأثر بالنقصان الشهري المتصاعد لإمدادات النفط، وهي بقية دول العالم.