من المؤسف والمحزن حقاً أن يخسر شخص- أي شخص – جزءاً كبيراً من ثروته في البورصة وخاصة إذا كان مبلغ خسارته يمثل نسبة عالية منها، ويزداد الحزن إذا كانت الخسارة لأحد محدودي الدخل، كما يتضاعف الحزن إذا علمنا أن هذا الشخص قد اقترض المال اللازم لشراء الأسهم وأن خسارته ستجعله مديناً بأموال لا يملكها ولا يستطيع تدبيرها. إذا كان ذلك هو الشعور الذي يغمر كل إنسان بمن فيهم ومنهم المسئولين، فهل يعد ذلك سبباً كافياً كي يقدم المسئولون على دعم صغار المستثمرين وتعويضهم لكل أو لجزء من خسائرهم كما ينادي البعض. من المعروف أن عمليات الاستثمار والمضاربة في البورصة لا تناسب كل الأفراد، فخطر تكبد الخسائر قائم في جميع معاملات البورصة، إلا أنه من الملاحظ أن بعض المتعاملين للأسف الشديد يتعاملون مع البورصة وكأنها جمعية خيرية توزع الصدقات والإعانات على الكافة!! ويدخل في عمليات بلا أي فهم أو دراسة وبلا خطة ولا معرفة بالمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها. وإذا كان الحال هكذا فهل يكون من الصالح العام تبديد أموال دافعي الضرائب في عملية إنقاذ لمستثمرين فرطوا في حق أنفسهم ولم يقوموا بواجبهم إزاء الحفاظ على مدخراتهم وتهوروا وانقادوا لغرائزهم واستسلموا للطمع لتحقيق أرباح كبيرة في فترة وجيزة؟! لا يمكن أخذ الأحداث الأخيرة ذريعة للضغط على المسئولين لجعلهم يتخذون قراراً يقدمون فيه على حماية المستثمر/ المضارب من مخاطر البورصة (خطر انهيار الأسعار في فترة زمنية قصيرة، وخطر انعدام السيولة مع الغياب التام أو شبه التام للمشترين، وخطر ازدياد حجم البيع بطريقة غير عادية، وخطر الهروب الجماعي نتيجة الضغوط البيعية التي تزداد مع كل هبوط جديد للأسعار، وخطر إغلاق البورصة بسبب عوامل سياسية أو تخريبية أو إرهابية، ..... الخ)، وهم بذلك يرتكبون خطاءً كبيراً في معالجة الأمور، وهو الأمر المعروف بالمخاطر المعنوية moral hazard التي يمكن تعريفها بإيجاز: حماية المستثمر من المخاطر مما يجعله لا يقيم لها اعتباراً في المستقبل وإجراء عملياته بناءً على توقع التدخل الحكومي لحمايته عند وقوع أي أزمة. فعندما ينتفي الحافز لتفادي الخسارة تتلاشي بالتالي ضرورة توخي الحيطة والحذر لدى المستثمر. هنا يكون فحوى الرسالة الضمنية لعملية إنقاذ صغار المستثمرين: “لا تقلقوا البتة من البورصة فعملياتها مضمونة تماماً. إما المكسب أو عدم الخسارة”. ستحتفظ وحدك بكل الأرباح، وسنقوم بتعويض خسائرك عن طريق الصرف من أموال دافعي الضرائب لإنقاذك. وتتحول بذلك عمليات البورصة إلي لعبة جميلة: “ملك” تكسب، “كتابة” دافع الضرائب يخسر!! وذات الرسالة ستصل أيضاً إلى ممولي ومقرضي عمليات البورصة، وهي رسالة خطيرة للغاية ستؤدي حتماً في المستقبل إلى انهيارات ومشاكل مالية واقتصادية فادحة. من المهم عدم انتهاك مبدأ مسؤولية كل فرد عن قراراته، فقرار أي شخص يعود على صاحبه إما بنتائج إيجابية أو سلبية. ومن الخطأ الجسيم للمسئولين عمل سياج واقي يحمي متخذ القرار من الخسائر والتبعات الضارة لقراراته، وتركه يحصد ثمار نتائج قراراته الجيدة وجني أرباحها. ففي أوقات الحروب والثورات والقلاقل السياسية، تتراجع الاعتبارات الاقتصادية وتأخذ مكانا بالمقعد الخلفي، بينما يتصدر الموقف ويتحكم في عجلة قيادة الأسعار الاعتبارات السياسية. والمشهد السياسي بمصر قبل ثورة 25 يناير كان شديد الاحتقان ينذر بأخطار جسيمة قادمة وقابل للانفجار في أي لحظة (اعتراضات متزايدة على التمديد والتوريث، وقفات احتجاجية متتالية، اعتصامات عمالية وفئوية عديدة، تزوير فج لانتخابات الشورى والشعب تبعه تشكيل البرلمان الشعبي، الكشف عن عمليات فساد كبيرة... الخ)، كل هذه الأحداث كانت تمثل مخاطر سياسية كبيرة يستحيل لأي مستثمر حاذق تجاهلها، والتقليل من شأن كل ما يحدث على الساحة والمجازفة بدخول السوق في أوقات عصيبة كهذه يعني سوء قراءة للأمور وسوء تقدير على المستثمر وحدة تحمل تبعاتها. البورصة على مر تاريخها الطويل بالعالم أجمع، تعرف ظاهرة عدم التماثل بين حركة الصعود وحركة الهبوط price asymmetry ، فالصعود عادة يتم ببطء (بنسب مئوية صغيرة على فترة زمنية طويلة نسبياً)، بينما الهبوط يحدث بسرعة في كثير من الأوقات (بنسب مئوية كبيرة بفترة زمنية قصيرة نسبياً)، وهذا يرجع إلى الطبيعة الإنسانية فعندما يدق ناقوس الخطر تهرع الجماهير إلى الهروب بسرعة وفي وقت واحد لبر الآمان. إن غلق البورصة لن يمنع الأسعار من أن تذهب إلى حيث تريد أن تذهب حتى تجد مستوى التعادل الطبيعي لها وفقا للظروف السائدة وقناعات مجموع المتعاملين (بل قد يأتي بنتائج كارثية عكس ما يظن بعض المواطنين غير المتخصصين). ومن واجب المسئولين دعم البورصة، ودعمها يتم بفتحها والحفاظ على سير العمل بها (لم تغلق بورصة طوكيو أبوابها بعد الزلزال المدمر والتسونامي القاتل باليابان)، والضرب بيد من حديد على كل من يخالف أو يتلاعب بقواعدها ويعوق عملها بكفاءة عالية. أما دعم المستثمرين – بخلاف توعيتهم بمخاطر البورصة المختلفة – فيتم بالحفاظ على حقهم في التداول، ذلك أن محفظة الدعم لا يمكن أن تتسع لإنقاذهم، فالدعم – كل الدعم – يجب قصره وتوجيهه لمساندة الطبقات الدنيا من المجتمع. فتح البورصة للتداول ضرورة قومية وواجب وطني، فهي تقوم بدور أساسي ومهم للغاية في التنمية، والذين يهاجمونها ويروجون لعكس ذلك – وإن شاب بعض عمليات البورصة المصرية نوع من عدم الكفاءة مثلها مثل بقية بورصات الأسواق النامية – عليهم فقط إلقاء نظرة على أكبر وأنشط البورصات بالعالم أجمع ليكتشفوا أنها توجد – ليس مصادفة – بالدول الأكثر تقدماً والأقوى اقتصاديا. خبير مالي- مؤلف كتاب التحليل الفني للأسواق المالية [email protected]