من حسن الطالع أن التحديات والكروب التي تفوق قدرات العقل وتكسر قواعد المنطق في مصر، لم تفلح في تهشيم الطبيعة المسالمة للإنسان المصري أو خلخلة أبواب جهنم لفتحها أمام حرب أهلية وقودها السيارات المفخخة أو الناسفات، بل لاذت فئات من المصريين برحلات غوص قصيرة في بحور الغيبيات والخرافة بحثا عن السلوى والتقاط الأنفاس، لربما تكون تلك الإشارات الأولى لبدايات عودة الوعي وبعث الميت من رقاده، إنها عادة أهل هذا البلد العظيم عندما تدلهم الكروب وتتفاقم الأزمات، فتولد من رحم آلامهم المعجزات، ومن انقشاع أدخنة الخرافة والغيبيات حقائق فريدة واستثنائية تبهر العالم، وتدفعه الى مزيد من الحيرة في الجينات الفريدة لهذا الشعب، وفي ذلك تبدو مقاربة التاريخ واضحة في ما بعد نكسة 1967 وصولا الى انتصار أكتوبر المجيد. لم لا يتعامل المرء إذن بشيء من الانتباه والاهتمام إلى فضفضة الجار العزيز خلال زيارتي مؤخرا لقريتنا في مصر؟.. فقد باغتني بحكاية أحد أبناء القرية ممن ظهرت عليهم علامات الثراء المفاجئ واشاع في القرية أن رجلاً (صالحا!!) اكتشف له كنز تحت بيته، ومن ثم حاول الجار اقناعي بأن استدعي هذا الرجل الصالح، لربما يكتشف لي كنزاً تحت بيتي القديم، فاقتحم عالم الأثرياء والمحاسيب من أوسع الأبواب وأيسرها، لم يخطر على بالي ساعتها الا أن أسأل الجار العزيز عن الحالة الأمنية في قريتنا بعد الثورة، فأجابني بأنها كانت بالغة السوء، فأجبته لا حاجة لنا بهذا الحديث عن الأثرياء الجدد لقريتنا، فالمعنى خرج من بطن الشاعر، والحلم يفسر نفسه. ولعل نفس منطق الرجل الصالح والأثرياء الجدد وسيكولوجية الاشاعة هي نفسها أدوات تنويم مغناطيسية قوية التي أدخلت كلمة التغيير وأخواتها من أدوات الاصلاح في نوم عميق بعد ال25 من يناير 2011، بحيث أصيبت كل أحلام وطموحات المصريين بالشلل المؤقت وربما الرعاش (كانقطاع الكهرباء في مصر الآن)، بما واكب ذلك من تمدد لمساحات الفوضى والعبث والبحث عن الغيبيات وما وراء الطبيعة لفهم الواقع، ولولا الفهم لحركة التاريخ ومقتضياته بما تفرضه من ضرورات الخطأ والصواب في منعطفات التغيير، وإدراك واع لعبقرية مصر الزمان والمكان لأصيب المرء باكتئاب وطلق الكتابة السياسية طلقة بائنة، وربما تحول إلى احد الدراويش رثي الثياب كثيثي اللحية ممن يجوبون شوارع القاهرة ويهذون بعبارات رمزية غير مفهومة لا يخلو بعضها من معنى ومضمون. والحق وبعيدا عن سحب الغيبيات واللا عقل التي لا أشك في انقشاعها آجلاً أم عاجلا، فإنه لن تتزحزح قناعة المرء أن المصريين وقعوا ضحية وفريسة لأكبر عملية نصب نوعية لإفشال حراكهم التاريخي، كانت فيها مطابخ البنتاجون وال(سي اي ايه) أسرع وأهدأ في حركتها وألاعيبها وحربها النفسية من صخب الشوارع، بحيث لم يعد من خيار سوى إدارة قرص المقامرة لصالح ما قبل ال25 من يناير مهما اختلفت الواجهة، فما من مجال اذن للحديث عن صناديق اقتراع رهنت في لعبة (ال3 ورقات) التي اشتهرت بها الموالد المصرية، لتجد مصر اليوم نفسها في مواجهة حية لجبال متراكمة من الاحباطات والتفسيرات الغيبية، ليست في جوهرها من مشكلات حياتية يومية فهي هموم اعتاد عليها المصريون، بل جراء العطب الذي أصاب حلم التغيير وحوله إلى كابوس يهدد أمنهم القومي ويضع تضحياتهم التاريخية في مزاد علني. لن نتحدث عن كامب ديفيد واخواتها من حزمة سياسات اقتصادية واجتماعية جوعت المصريين وأمنت اسرائيل والغرب من خوف، وتواصلت في الحكم الاخواني بصورة فجة تضع كل مزايداتهم الايديولوجية في عصر مبارك في سلة المهملات، ولن نطيل الحديث عن استنساخ الإخوان لأساليب مبارك في التعامل مع المعارضة والاستخفاف بها، عبر التعامل بخفة وسخرية مع ما تسمي نفسها حملة (تمرد) لجمع التوقيعات لسحب الثقة من الرئيس محمد مرسي، وهو ما قد يذكرنا بنفس هذا الموقف للرئيس السابق من حملة التوقيعات للمطالب ال7 للتغيير التي قادها الدكتور محمد البرادعي، ولن نترك لحبال الدهشة مجالا أكبر للحديث عن القيادي الاخواني ورجل الأعمال خيرت الشاطر وهو يتصدر غلاف صحيفة (أخبار الأدب) المصرية كرمز من رموز الثقافة المصرية (!!)، فيما كانت صحيفة الأهرام العريقة تفتح ذراعيها واسعة لمقالات متواضعة لرجل الأعمال أحمد عز نظيره الموضوعي في نظام مبارك، بل الأنكى ما جاء في أداء العديل الموضوعي لنظام مبارك من استنساخ لتفاصيل الحكم والسياسات بقيمة مضافة تطيح بالمؤسسات أو تحرض على الاطاحة بها، وترهن مقدرات الأمن القومي مما يسمى بمشروع قناة السويس وأمن سيناء لاعتبارات البزنسة أو ايديولوجيتها عابرة القارات، والتي أشك في أنها ستطول. مثير حقا، بل وبديهي أن يكون من مغيبات العقل والوعي لأصحابه، أن يفر المرء من النار اليها، وأن يسقط نظاما استبداديا فاسدا ليقيمه مرة أخرى، لكن ذلك لن يستمر طويلا، ليس فقط بحكم توازنات القوى الداخلية في مصر، أو إقليميا أو دوليا، أو حتى لمجرد تغير مزاج المصريين في لحظة معينة بثورة شعبية محتملة، بل وأيضا أن ما يحدث هو محاولات يائسة لزراعة نخاع شوكي في جسد لن يتقبله بحكم اختلاف الجينات والتركيبة الحضاري.. وحسبي القول إن التخلص منه بأسلوب غير تقليدي، يصل الى حد الاعجاز. [email protected]