ليس بعيدًا عن زخم حملة «تمرد»، وقف الرئيس لا فض فوه، في «المزرعة السعيدة»، ليلقي خطبة جامعة مانعة، عن أهمية زراعة القمح، وضرورة الاكتفاء الذاتي، من هذه السلعة الاستراتيجية، وتحدث عن الفلاح المصري، المكافح المثابر، حتى كاد يتلو درسًا من كتاب المطالعة الرشيدة، للصف الرابع الابتدائي، ولم يكن ينقصه، بعد أن استشهد بأغنية عبدالوهاب «القمح الليلة»، إلا أن يطالب الشعب، بأن يردد وراءه، «أبو قردان صديق الفلاح»! مضمون خطابات الرئيس لم يعد يثير الاهتمام، كما كان، أول عهده بالرئاسة، فالمصريون عرفوه و«قرشوا ملحته»، وأدركوا أنه سيملأ شدقيه مفردات مهجورة، وسيزين الخطاب، بمصطلحات بليغة، مما انقرضت، قبل قرون، ولم تعد موجودة، إلا في كتب التراث مثل، البيان والتبيين للجاحظ، ولقط المرجان، وعلاج المس والسحر والجان. وكعادته الأصيلة، وإلى جوار الألفاظ المهجورة، لا ينسى الرئيس أن يضفي على الخطبة شيئًا من الكوميديا، فلربما راق له أن يتحدث عن سائقي التوكتوك، أو أن يخوض في حديث الأصابع، وكلام القرود، الذي خاض فيه الرئيس مرارًا، لكن «كوميديا الرئيس»، عجزت بدورها، عن استجلاب الضحك، كونه يكرر نفسه، ولا يجدد أساليبه، ما يذكر بالكوميديان المذهل، محمد سعد، الذي سجن نفسه في شخصية اللمبي.. مع الفارق الكبير في الموهبة. غير أن خطبة القمح، تبقى مثيرة للاهتمام، كون الرئيس، حاول أن يرسل عبرها، رسالة لمعارضيه إجمالاً ولحملة «تمرد» تحديداً مفادها: أنتم «اتنين ثلاثة في حارة مزنوقة»، وإن معظم الشعب معي، وأنا رئيس كل المصريين، فموتوا بغيظكم، ولا تتوهموا أن استمارات سحب الثقة التي تجمعون، ستهز ركائز حكمي.. أنا «رئيس جلده تخين». هذه الرسالة لا تستقى من تحليل ما وراء الألفاظ، ولا بالتحليل السيكولوجي للغة الجسد، ولا بالتمعن في توقيت الكلام فحسب، لكن بالإضافة إلى ما سبق، عبر البحث عن تعليل سبب اختيار «حقل قمح»، دون غيره، لتوجيه الكلمة. مرسي أو فريقه الرئاسي أو جماعته -لا فرق- اختاروا أن يتحدث، وسط الغيطان، محاطًا بحشد بشري، ممن ترتفع عقائرهم بهتافات تأييده، وهذا اختيار ذكي، إحقاقًا للحق، ذلك أن نسبة المشتغلين بالنشاط الزراعي بمصر، يتراوحون ما بين خمس وعشرين إلى ثلاثين بالمائة من السكان، هذا ناهيك عن نسبة المشتغلين بمهن تجارية وصناعية، تتصل اتصالاً وثيقًا، بالنشاط الزراعي. هكذا تُقرأ مدلولات اختيار المكان، أما فيما يتعلق بمضمون الخطاب، فالرئيس تحدث عن القمح، أي عن معاش وعيش المصريين، فدغدغ المشاعر بكلام كبير عريض، وأسهب في عبارات عن الاستقلال والإرادة الوطنية، وما إلى ذلك من «أكلشيهات» تشحذ الحس القومي، وتستحث الحماسة والشعور بالكرامة. رسالة توجهت في المقام الأول، إلى البسطاء والفقراء الكادحين، وهم الشريحة الأكبر من الشعب المصري، والأشد احتياجًا لرغيف مدعم، لا يشكل تناوله انتهاكًا لآدمية الإنسان، ولا يحصلون عليه بعد الطوابير الأطول، من طريق رأس الرجاء الصالح. لكن.. ترى هل وصلت الرسالة؟ الأرجح أن شيئًا مما فيها لم يصل، فبالإضافة إلى العجائب والغرائب، التي استولدت السخرية من رحم العبث، مثل البوابات الإلكترونية، التي أقيمت وسط الغيطان، في مشهد «نهضوي»، لا يضاهيه إلا مشاهد أفلام الأبيض الأسود، حين كان المخبر «السري» يجعل ثقبًا في الجريدة، ويدس رأسه فيها، فيراقب العصابة، من حيث لا يدرون، وفضلاً عما اقترن بهذا المشهد، من عودة إلى ذاك الزمان -أعني زمان الجريدة المثقوبة- عبر الاستشهاد بأغنية عبد الوهاب «القمح الليلة»، وعلاوةً على الطعن في صحة ما أدلى به الرئيس حول زيادة إنتاج المحصول.. ثمة عوائق أخرى، حالت دون وصول الرسالة. أبرز العوائق تكمن في أن الكادحين الفقراء، الذين خاطبهم مرسي، قد كفروا بنهضة جماعته، إلا قليلاً، وأكثرية القليل الذين مايزالون يرددون ببغاويًا: امنحوا الرجل فرصة.. يحسون «ولا يجهرون» بأن كل وعود مرسي، «فض مجالس» أو كلام ليل، يذوب ما أن تطلع الشمس، فالرجل وعد باستثمارات وأمن وأمان وبالقصاص للشهداء، لكنه لم يعطِ إلا فقرًا وبلطجة وإفراجًا مجانيًا، عن إرهابيين ملوثة أياديهم بالدماء، وعوضًا عن الإتيان بالقصاص للشهداء، زاد عددهم في عهده، أما بالنسبة لوعوده بأن يكون رئيسًا لكل المصريين، فقد انتهت إلى انحياز جامح، للأهل والعشيرة، «شعب الله الإخوان»، ونهم مجنون لتحويل مصر من إقطاعية، كان يمتلكها الحزب الوطني المنحل، إلى مزرعة يديرها المرشد العام، الطبيب البيطري محمد بديع. هكذا وعد مرسي فأخلف.. وعد فأخلف، ثم أخلف، ولما شعر بأنه في مأزق، وبأن «المتمردين» يخرجون من أحزان الثورة، مثلما يخرج طائر الفينيق، من النيران بعد تحوله رمادًا، لم يجد إلا أن يوزع على الشعب المخدوع، مزيدًا من معسول الوعود، وسط زمرة من الذين يهتفون له. لكن.. هل يفي مرسي بالوعود هذه المرة؟ أغلب الظن، أن أحدًا لديه مثقال ذرة من العقل، لن يصدق مرسي مجددًا، ولن ينفعل بما جاء في خطبته من عبارات «بلاستيكية شمعية»، ولن يتأثر بالفيلم الهندي الرتيب، ولا بتفاصيل السيناريو، الذي تضمن مشهد السجادة الحمراء المتنطع، وسنابل القمح المهذبة بعناية، والمنصة الرئاسية والبوابات الإلكترونية، في الغيط. الرسالة لم تكن صادقة إذن، وما ليس صادقًا، لا يمكن أن يصل إلى القلب. كل شيء كان مبتسرًا خاليًا من الروح، إلى درجة أن الدراويش، الذين سمحت لهم قوات الأمن بحضور الخطبة، ليهتفوا لمرسي، كانوا مجاميع كومبارس، ممن ينتمون إلى جماعة الإخوان، وقد توافدوا من كل فج عميق، تنفيذا للسمع والطاعة، واحتشدوا نزولاً على السمع والطاعة، وهتفوا بأقصى طاقات حناجرهم، سمعًا وطاعة، وانصرفوا بعد تأدية دور الكومبارس، سمعًا وطاعة، في فيلم مقاولات فقير إبداعيًا، «لا قصة ولا مناظر»! رسالة مرسي لم تصل، وهتافات كومبارس الجماعة، لم تقنع أحدًا، غير أن رسالة «المتمردين» وصلت إلى الشعب.. كما وصلت إلى مرسي وجماعته. [email protected]