لم يتجل لنا بعد ، تجليات ثورة 25 يناير الفنية .. سيدافع البعض ، ويذكر لنا أغنية هنا أو أغنية هناك ، وسيسرد البعض قصائد لشعراء قدامى ومحدثين ، لامست الحدث ، ودارت فى فضاءاته، بل وتنبأت بالثورة قبل حدوثها ، وسيتكلم أخرون عن لوحات فنية ، وعروض مسرحية ، وحفلات لفرق موسيقية ، ورسومات كاريكاتورية ، وربما أفلام تسجيلية وقصيرة لم تكتمل بعد .. لكن ما أقصده ليس ذلك ، ما أقصده حينما يتحول الفن الى أيقونة للثورة ، يتحرك معها ، وتتحرك معه ، ويسيران معاً قدماً بقدم وروحاً بروح ، فلا أحد يتخيل ثورة 1919 بدون الفنان سيد درويش ، فهو صوتها إلينا عبر الزمن ، وما زالت أعماله الفنية عنها ، على ذات وهجها وحضورها ، رغم مرور ما يقرب من مائة عام على الثورة ، وعلى ألحان الفنان خالد الذكر سيد درويش التى لازمتها ، فأعماله بدأت مع لمعة الثورة الاولى ، وتبنتها جموع المصريين ، وصارت طريقتهم المثال للتعبير عن أحلامهم فى وطن جديد ، ولإكتشافهم معنى مصريتهم الدفينة .. نفس الأمر مع النحات العبقرى محمود مختار ، الذى بدأ فى تمثاله ( نهضة مصر ) مع تباشير الثورة ، وربما قبل حدوثها بعام ، وعرضه لأول فى عام 1920 ، في معرض الفنون الجميلة السنوى في باريس ، ونال إعجاب محكمى المعرض ورواده ، وقرر مجلس الوزراء المصرى وقتها إقامة التمثال فى مصر عام 1921 ، وإكتتب المصريون بكافة طوائفهم ، ليخرج التمثال الى النور ، وإلى مكانه الأول فى ميدان باب الحديد عام 1928 ، وينقل بعد ذلك إلى مكانه الحالى بميدان جامعة القاهرة عام 1955، ليكون شاهداً على إعادة إكتشاف مصر لنفسها ، واعادة اكتشاف أبنائهم لها .. وبرغم أن لسيد درويش ، ولمحمود مختار أعمالاً اخرى ، لا تقل يأية حال عن أعمالهم ، التى أبدعاها مع الثورة ، إلا أن أغنيتى : قوم يا مصر ، وأنا المصرى كريم العنصرين ، وتمثال نهضة مصر ، ظلوا فى ذاكرة المصريين ، متلازمين مع ثورة 1919 ، كتلازم الضوء مع الظل ، والروح مع الجسد .. وأثرت ثورة 1919 فى فنون اخرى ، نذكر منها فن القصة ، التى بدأت فجرها مع ثورة 1919 ، بأسماء عديدة نذكر منها محمود تيمور ، وأحمد خيرى سعيد ، ومحمود طاهر لاشين ، وآخر حبات عقدهم واكثرها توهجاً المبدع الكبير يحيى حقى .. وما حدث مع ثورة 19 ، حدث مع ثورة 52 .. لكن لم تتبن الجماعة المصرية ، أيه اعمال فنية لثورة 52 ، الا بعد أن تحولت من حركة الى ثورة ، ومن إنقلاب الى دولة لها اهداف ، وتبحث عن استقلالها الوطنى ، فتبنت الجماعة المصرية أعمالاً فنية ، فى محطات ثورة يوليو الأساسية ، بداية من تأميم قناة السويس عام 1956 ، وإعداد مشروع بناء السد العالى ، وانتهاءً بهزيمة يونيو 1967 .. ولم يغفل الابداع المصرى بكافة تنويعاته وأشكاله كذلك ، حادثتى رحيل جمال عبد الناصر عام 1970 ، وعبور أكتوبر المجيد 1973 ، باعتبارالعبور تم أيضاً تحت مظلة وشرعية ثورة يوليو .. ولو حاولنا حصر الأعمال الفنية ، التى عبرت عن كل حدث من احداث ثورة 52 ، لاحتجنا الى صفحات وصفحات ، لكن ما يعنينا الآن ، أن ثورة يناير ، لم تجد بعد ، ما يعبر عنها فنياً ، فاستحضرت أغانى الستينات والسبعينات من القرن الفائت ، استحضرت أعمالاً أنتجت فى ظروف مختلفة وأحداث مغايرة ، لكن من فرط صدقها الشعورى والوطنى والإنسانى ، تجاوزت زمنها الى زمن شباب 25 يناير ، سيما أغانى عبد الحليم حافظ ، وشادية ، فهى أيقونات الثورة حتى الآن .. وما أنتج من أغنيات حديثة لم يصل بعد الى درجة توهج تلك الاغانى بين ثوار ميدان التحرير ، وثوار كل ميادين مصر ، حتى الفنانين الذين انتظرنا منهم أن يكونوا لسان الثورة وصورتها مثل محمد منير ، على الحجار ، شيرين ، أنغام ، وغيرهم ، لم يبدعوا بعد ما يعبر تعبيراً حقيقياً عن الحدث وتداعياته وظلاله وتأثيراته .. وصرنا جميعا نتمنى أن يكون بيننا الآن المبدعين الراحلين : بليغ حمدى ، كمال الطويل ، على اسماعيل ، صلاح جاهين ، أمل دنقل ، صلاح عبد الصبور ، نجيب محفوظ ، يوسف إدريس ، يوسف شاهين ، الشيخ امام ، فؤاد حداد ، سيد مكاوى ، محمود السعدنى ، أحمد بهاء الدين ، عبد العزيز فهمى ، شادى عبد السلام ، محمد سيد أحمد ، أحمد عبدالله رزة ، أسامة أنور عكاشة ، نصر حامد أبوزيد ، فاروق عبد القادر ، مرسى جميل عزيز ، محمد عفيفى مطر ، عبد الحكيم قاسم ، يحيى الطاهر عبدالله ، عبد الهادى الجزار ، جمال السجينى ، عدلى رزق الله ، محيى الدين اللباد ، حسين بيكار ، .. وغيرهم ، من الذين لامسوا سر خصوصية هذا الوطن الجميل فيما مارسوا من فنون أو طرحوا من أفكار .. ربما سننتظر بعض الوقت ، لتخرج لنا أعمالاً فنية وفكرية ، فى كافة أشكال الابداع ، على مثل أهمية الحدث ، إذ يبدو أن مصر جديدة تتخلق من حولنا ، وحتماً سيكون الفن المعبر عنها مختلفاً ، ويحمل رؤىً تنتمى للألفية الجديدة .. وما علينا إلا الإنتظار ، لأن هناك أعمالاً كامنة فى الظل ، وسيرفع عنها الستار قريباً ..